أهل البيت (عليهم السلام) سيرة اهل البيت - مكتبة اهل البيت - موسوعة شاملة عن أهل البيت (ع) ![]() |
![]() |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#11 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (106) فهو يُحاول أن يَكسب شيئاً من الشرف والمجد ، لِيَملأ هذا الفراغ ويتخلّص من هذا الشعور ، ويُغطّي على وَصمات الخزي من سجلّ حياته ومن صفحات تاريخه ، ويتشبّث بشتّى الوسائل ، ولكنّ محاولاته كانت تَبوء بالفشل. ومن جملة الطرق والوسائل التي حاول معاوية ـ من خلالها ـ إكتساب الشرف والسؤدد ، هي مُصاهرة الأشراف ، لإكتساب الشرف منهم. وكان البيت العَلَوي الطاهر على علم وبصيرة من نوايا معاوية وأهدافه ، ولهذا كانوا يَسدّون عليه كلّ باب يمكن أن يدخل منه. فلقد أوصى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند وفاته : أن يتزوّج المُغيرة بن الحارث بن الزبير بن عبد المطّلب بأُمامة بنت زينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). تلك السيدة التي أوصت مولاتنا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أمير المؤمنين أن يتزوّج بها ، حيث قالت : « وتزوّج بأُمامة إبنة أُختي ، فإنّها لأولادي مِثلي ». وإنّما أوصى الإمام بذلك كي لا يتزوّج بها معاوية ، فالإمام كان يعلم ـ بعلم الإمامة ـ بأنّ معاوية سوف يُحاول أن يتزوّج بها ، (107) ويَفتخر بأنّه صاهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّ حفيدة النبيّ قد صارت في حِبالته. ولهذا أغلق الإمام الباب على معاوية ، وتركه في ظلمات نسَبه وحَسَبه ! (1) 1 ـ ذكر ابنُ عبد البَرّ في كتاب ( الاستيعاب ) ـ في ترجمة حياة أُمامة ـ : « تزوّجها علي بن أبي طالب بعد فاطمة ... وكان علي بن أبي طالب قد أمرَ المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب أن يتزوّج زوجته بعدَه ، لأنّه خاف أن يتزوّجها معاوية. فتزوّجها المغيرة ... وذكر عَمر بن شبّة بسنده أنّ عليّاً لما حَضَرته الوفاة قال ـ لأُمامة بنت أبي العاص ـ : « لا آمن أن يَخطبكِ هذا الطاغية بعد موتي ـ يعني : معاوية ـ ، فإن كان لكِ في الرجال حاجة فقد رضيتُ لكِ المغيرة بن نوفل عشيراً ». فلمّا انقضت عَدّتها .. كَتَب معاوية إلى مروان يأمره أن يَخطبها ، ويَبذل لها مائة ألف دينار !! فلمّا خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل أنّ هذا قد أرسَلَ يَخطبني ، فإن كان لك بنا حاجة فأقبِل ، فأقبَل وخَطبها مِن الحسن بن علي ، فزوّجها منه. وذكر ابنُ حجر العسقلاني في كتاب ( الإصابة ) مثلَ هذا النص. وجاء في كتاب ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد : أن أُمامة بنت أبي العاص قالت للمغيرة بن نوفل : إنّ معاوية قد خطبني. فقال لها : أتتزوّجين ابنَ آكلة الأكباد ؟! فلو جَعلتِ ذلك إليّ ؟ قالت : نعم. قال : قد تزوّجتكِ. وحكى السيد الأمين في ( أعيان الشيعة ) عن الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي زواجَ أمامة مِن المغيرة بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. (108) وبعد سنوات قام معاوية بمحاولة أخرى ، فلقد كتَبَ إلى زميله ونظيره في الدَناءة واللؤم والحقارة والصلافة والوقاحة : مروان بن الحَكَم ، ابن الزرقاء الزانية ـ وكان حاكماً على الحجاز مِن قِبَل معاوية ـ أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر ، وأمّها السيدة زينب ـ ليزيد بن معاوية. وجاء مروان إلى عبد الله بن جعفر ، وأخبَره بذلك. ومن الواضح : أن عبد الله بن جعفر هو أبو الفتاة ، وله عليها الولاية ، وهو يَعلم نوايا معاوية وهدفه من هذه المصاهرة ، ولكنّه هذا .. ولكن قد ذكر ابنُ شهر أشوب في كتاب ( المناقب ) ج 3 ص 305 ، عن كتاب ( قوت القلوب ) روايةً تتنافى مع ما ذكره المؤرّخون ، وهي : أنّ المغيرة بن نوفل خطب أُمامة ، فروَت عن علي ( عليه السلام ) أنّه : لا يَجوز لأزواج النبي والوصيّ أن يتزوّجن بغيره بعده ». أقول : على فرض صحّة هذا الخبر الأخير وثبوته ، فإنّ هناك احتمالات : 1 ـ عدم صحّة ما قيل حول زواجها بعد الإمام ( عليه السلام ). 2 ـ عدم صحّة ما قيل حول عدم زواجها ، وهو الخبر الأخير. 3 ـ الجَمع بين هذا الخبر الأخير وبين الأقوال التاريخيّة : أنّ زواجها من بعد الوصي كان لضرورة التخلّص من الموقف المحرج ، وهو الزواج من معاوية. والله العالم بحقائق الأمور. المحقق (109) يَعتبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) كبير الأسرة ، وسيّد العائلة ، وأشراف أفراد العشيرة ، فلا ينبغي لعبد الله بن جعفر أن يُنعم بالقَبول ويوافق بدون موافقة الإمام الحسين ، فتخلّص من هذا الطلب المُحرج ، ومن هذه الحيلة الشيطانيّة فقال : « إنّ أمرها ليس إليّ ، إنّما هو إلى سيدنا الحسين ، وهو خالُها ». فأخبر عبد الله الإمام الحسين بذلك. فقال الإمام : « أستخيرُ الله تعالى ، اللهم وفّق لهذه الجارية رِضاك من آل محمد ». (1) فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أقبَل مروان حتى جلس إلى [ جَنب ] الحسين ( عليه السلام ) وعنده مِن الجِلّة. (2) فقال مروان : إنّ أمير المؤمنين [ معاوية ] أمَرَني بذلك ، وأن 1 ـ أستخير الله : أي أطلُب مِن الله تعالى الخير والصلاح في هذا الأمر. اللهم وَفّق : أي : هَيّء ، التوفيق : تهيئة الأسباب. الجارية : الفتاة. رضاك : مَن ترضى به زوجاً لهذه الفتاة. من آل محمد : أي ويكون ذلك الزوج مِن أقرباء رسول الله القريبين منه .. لا من غيرهم. المحقّق 2 ـ الجِلّة ـ مِن القوم ـ كِبار السنّ ، والشخصيّات البارزة. كما يُستفاد من كتاب ( لسان العرب ) لابن منظور. (110) أجعَل مَهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ (1) مع صُلح مابين هذين الحَيّين (2) مع قضاء دَينه (3). واعلم أنّ مَن يَغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم !! والعجَب كيف يُستَمهَر يزيد وهو كُفوُ مَن لا كفوَ له !! وبوجهه يُستسقى الغمام !! فرُدّ خيراً يا أبا عبد الله ؟ (4) أقول : قبل أن أذكر تكملة هذا الخبر أودّ التعليق على كلمات مروان : من الصحيح أن نقول : إنّ الصلافة والوقاحة لا حدّ لهما ولا نهاية ، وإنّ دِناءة النَفس وخساسة الروح تُسبّب إنقلاب المفاهيم إلى صورة أخرى. فالحقير يَنقلب شريفاً ، والنَذل يُعتبر مُحترماً ، والوجه الذي لم يَسجُد لله يُستَسقى به الغمام ، ووليد الكفر والفجور يُغتَبَط 1 ـ أي : وأن أجعل مقدار المهر ما يُعيّنه أبو البِنت ، وهو عبد الله بن جعفر. مهما كان ذلك المقدار كثيراً. 2 ـ الحيّين : العشيرتين. الحيّ : القبيلة. 3 ـ أي : دَين أبيها عبد الله بن جعفر. 4 ـ رُدّ خيراً : أجِب بالإيجاب والموافقة. (111) به ، والسافل المنحَط يَصير أرفع وأجلّ مِن أن يُطالَب بالمهر ، بل ينبغي أن تُهدي العظماء فَتياتها إليه هدايا بلا مَهر !!! هذا هو منطق مروان ، وعصارة دماغه ، وكيفيّة تفكيره ، ومَدى إدراكه للقيم والمفاهيم. وقد تجرّأ أن يَرفع صوته بهذه الأكاذيب التي لا يَجهلها أحد .. وكأنّه لا يعلم مع مَن يتكلّم ، وعمّن يتحدّث ويمدَح ؟! فأجابه الإمام الحسين ( عليه السلام ) بجوابٍ ألقَمَه حَجراً ، وزَيّف أباطيله وأضاليله ، وفنّد تلك الترّهات التي صدرت مِن أقذر لسان ، وألعن وأحقر إنسان. والآن .. إليك تكملة الخبر : فقال ـ عليه السلام ـ : « الحمد لله الذي اختارنا لنفسه ، وارتضانا لدينه ، واصطفانا على خلقه ... إلى آخر كلامه ». أُنظر إلى قوّة المنطق ، وعُلوّ مستوى النفس ، وشِرافة الروح ، وقداسة السيرة ، وغير ذلك ممّا يتجلّى في جواب الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمروان بن الحَكم. فهو ( عليه السلام ) يَفتتح كلامه بحمد الله تعالى الذي اصطفاهم واختارهم ، وهذا منتهى البلاغة والكلام المناسب لمُقتضى الحال ، فتراه يُصرّح أنه من الأسرة التي اختارهم الله تعالى للإمامة واصطفاهم ، ومعنى ذلك توفر المؤهلات فيهم ، (112) وتواجد الفضائل والمزايا والخصائص التي لا توجد في غيرهم ، فهم في أعلى مستوى من الشرف ، وفي ذروة العظمة الممنوحة لهم من الله تعالى ، والفرق بينهم وبين غيرهم كالفرق بين الثُريّا والثَرى ، والجواهر والحصى. إذن ، فهناك البون الشاسع بينهم وبين غيرهم من الناس الذين لم يَتلوّثوا بالجرائم ، ولم يُسوّدوا صحائف اعمالهم بالمخازي ، فكيف بمعاوية ويزيد و مروان ، والذين هم من هذه الفصيلة ! ثم قال الإمام : « يا مروان ، قد قلتَ ، فسمعنا ، أمّا قولك : « مَهرها حُكم أبيها بالغاً ما بلغ » ، فلَعمري لو أردنا ذلك ما عَـدَونا (1) سنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بناته ونسائه وأهل بيته ، وهو (2) اثنتا عشرة أوقية ، يكون أربعمائة وثمانين درهماً. (3) 1 ـ عَدَونا : تجاوَزنا. عدا عدواً : تجاوز الحد في الشيء. كما في كتاب ( لسان العرب ) لابن منظور. 2 ـ وهو : أي المهر. 3 ـ الدرهم : وحدة وَزن ، وقطعة من فضّة مضروبة للمعاملة. أمّا الوَزن : فقيل : إنّ الدرهم الواحد يُساوي ستّة دوانق ، والدانق : قيراطان ، والقيراط ، طسّوجان ، والطسوج : حبّتان ، والحَبّة : سُدس ثمن درهم ، وهو جزء من ثمانية وأربعين ج |
![]() |
![]() |
![]() |
#12 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (121) وأرسل غيثاً مدراراً ، كل ذلك كرامة لوجه رسول الله وجاهه ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه ، ولكن مروان يقول : « بوجه يزيد يُستسقى الغمام !! ». وأنا أقول : نعم ، بوجهه يُستسقى الغمام ، لفجوره وخموره ، وقماره ومنكراته ، وموبقاته ومخازيه ، وجرائمه ونسبه. وبهذه الفضائل !! يُستسقى بوجهه الغمام !! اليس هكذا ؟! « واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط يزيد بكم ». يقول هذا الأحمق : إنّ الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، أكثر مِن الذين يتمنّون أن يخطبوا منكم فتياتكم !! إنّ مروان اللعين يريد أن يقول : إنكم تزدادون شرفاً بهذه المصاهرة ، وأمّا يزيد فإنّه لا يزداد شرفاً بها ، لأنّه أرفع منزلةً وأعلى قدراً مِن أن يتشرّف بهذه المصاهرة. إقرأ كلامه واضحك ! فأجابه الإمام : وأمّا قولك : « مَن يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا ، فإنّما يَغبطنا به أهل الجهل ، ويغبطه بنا أهل العقل ». ومعنى كلام الإمام : أنّ الذين يجهلون القيم الإنسانية ، والمفاهيم الدينية هم الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، لأنهم ينظرون إلى ما يتمتّع به يزيد من متاع الدنيا والرفاه والرخاء. (122) وأمّا العقلاء ، الذين يفهمون المقاييس الأخلاقية ، والقيم الروحيّة ، فهم يتمنّون أن يخطبوا منّا فتياتنا ، لأنّنا في أوج العظمة ، وذروة الشرف ، وقمّة الفضائل. ثم قال الإمام ـ بعد كلام ـ : « إشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، على أربعمائة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي (1) بالمدينة (2) وإنّ غَلّتها في السنة (3) ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إن شاء الله ». أقول : قد اشتهر ـ في ذلك الزمان ـ كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « بناتُنا لبنينا ، وبنونا لبناتنا » ، ومَن أولى من الإمام الحسين بتطبيق هذا الكلام ؟. وقد سبقه إلى ذلك أبوه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حينما زوّج ابنته زينب الكبرى من ابن عمّها عبد الله بن جعفر. ولهذا بادر الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى تزويج إبنة أخته من ابن عمّها ، وقد دفع الصداق من ماله ، وأمّن حياتهما 1 ـ نحلتها : أعطيتها. ضَيعَتي : مزرعتي أو بستاني. 2 ـ أو قال : أرضي بالعقيق ، والعقيق : اسم منطقة في ضواحي المدينة. 3 ـ غلّتها : وارِدها. قال الطريحي ـ في مجمع البحرين ـ : الغلّة : الدخل الذي يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والبناء ونحو ذلك ، وجمعُه : الغلات. (123) الاقتصادية بتلك المزرعة ، الكثيرة البركة ، التي وهبها لها. فتغيّر وجه مروان ، وقال : « أغدراً يا بني هاشم ؟ تأبون إلا العداوة ؟ ». إنّ هذا العدو الغادر ينسب الغدر والعداوة إلى آل رسول الله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. فقال مروان :أردنـا صهركم لِنُجِدّ وُدّاًفلمّـا جئتكـم فجَبَهتمونيقـد اخلقه به حدث الزمانو بُحتم بالضمير من الشنان وهنا .. ما أراد الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن يستمرّ في محاورة ذلك الحقير ، وأن يُلقم مروان الحجر أكثر من هذا ، فتقدّم ذكوان (1) وأجاب مروان :أمـاط الله عنهم كـل رجـسٍفمـا لهم سـواهم مـن نظيـرأيجعـل كـلّ جبـارٍ عنيدٍ (2)و طهّرهـم بـذلك فـي المثانيو لا كفـوٌ هنـاك و لا مُدانـيإلى الأخيار من أهل الجنان ؟ (3) 1 ـ ذكوان : اسم رجل .. كان عبداً للإمام الحسين ( عليه السلام ) ثمّ أعتقه الإمام. وكان عالماً شاعراً أديباً ، جريئاً على الكلام. المحقق 2 ـ وفي نسخةٍ : أتجعل. ولعل الصحيح : أيُجعل ، أو : أيَجعل. المحقق 3 ـ المصدر : كتاب المناقب لابن شهرآشوب ، ج 4 ص 38 ـ 39. (124) أقول : لقد روى الشيخ المجلسـي ( رحمة الله عليه ) هذا الخبر في كتاب ( بحار الأنوار ) عن بعض الكتب القديمة ، ونسبه إلى الإمام الحسـن المجتبـى ( عليه السلام ) (1). وليس بصحيح ، لأن إمارة يزيد كانت بعد مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهذه الخطبة كانت في أيّام إمارة يزيد وكونه وليّاً للعهد.1 ـ بحار الأنوار ، ج 44 ص 119 ، باب 21 ، حديث 13. (125) إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى الفصل الخامس (126) بمقدار ما كانت حياة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) مشفوعة بالقداسة والنزاهة ، والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا ، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها. (127) فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان لها من العمر ـ يومذاك ـ حوالي خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها. ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ، فقد هجم رجال السقيفة على دارها لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَن فيها. وقد ذكرنا في كتاب : ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) شيئاً من تلك المصائب التي انصبّت على السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من الضرب المبرّح وإسقاط الجنين ، وغير ذلك ممّا (128) يطول الكلام بذكره. وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ أمّها من بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط إبنها المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها. و ـ بعد شهور ـ فُجعت السيدة زينب بوفاة أمّها ( سلام الله عليها ) وهي في رَيَعان شبابها ، لأنّها لم تبلغ العشرين من العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا اليوم. ومنذ ذلك الوقت كانت السيدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جليس الدار ، مسلوب الإمكانيات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدة وشدّة المحنة. وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ، فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو إكراه من أحد ، وكان أول من بايعه : الطلحة والزبير ، وكانا أوّل مَن نكث البيعة ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وحرجوا طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين ( للبيعة ) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة ـ في واقعة الجمل المعروفة ـ وكانت حصيلتها خمسة وعشرين ألف قتيل. (129) وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال وكاد نسل العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ، وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة. ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل فيها أربعة آلاف. وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الإضطرابات الداخلية في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومَقتله على يد عبد الرحمن ابن ملجم ! ولمّا قام اخوها : الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) بأعباء الإمامة تخاذل بعض أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي بقيت وصمة عارها إلى هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) إلى إيقاف القتال حِقناً لدماء مَن بقي من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر في البلاد الاسلامية ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته. كلّ ذلك بمرأى من السيدة زينب ومسمع. وطالت مدّة الإضطهاد عشر سنين ، وانتهت إلى دسّ السمّ إلى (130) الإمام الحسن ( عليه السلام ) بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه مسموماً ، ورشقوا جنازته بالسهام حتى لا يدفن عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1) وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ الظلم الأموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة ، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي يومذاك ، مِن قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة ! (2) وعاصر الإمام الحسين ( عليه السلام ) تلك السنوات السود التي انتهت بموت معاوية واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم. هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في حياة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) المليء بالكوارث والحوادث ، طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها. وأعظم حادثة ، وأهمّ فاجعة حدثت في حياة السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع. 1 ـ كتاب المناقب ، لابن شهرآشوب ج 4 ، ص 42 و44. 2 ـ كتاب سُليم بن قيس الهلالي ، طبع بيروت ، مؤسسة البعثة ، ص 165 ـ 166. (131) السيدة زينب وفاجعة كربلاء الفصل السادس مجيء إبن زياد إلى الكوفة يوم التروية الإمام الحسين يصطحب العائلة الإمام الحسين في طريق الكوفة لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعاية الإختصار ، ليكون القارئ على بصيرة أكثر من الأمر : مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة في البلاد الاسلامية (1) يُخبرهم بموت معاوية ، ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس. وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البيعة يلزم قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم. واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن شرّ تلك البيعة ، 1 ـ الوُلاة ـ جمع والي ـ : وهو حاكم البلد ، ويُعبّر عنه ـ حالياً ـ بالمحافظ. (134) وخرج إلى مكة في أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أن الإمام امتنع عن البيعة ليزيد. وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة. وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية نهضته ( عليه السلام ) ، وإعلاناً واعلاما صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير. وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنكرات. فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين ( عليه السلام ) ويطلبون منه التوجّه إلى العراق ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع صورة وأقبح كيفيّة ! كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ، لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم. فأرسل الإمام الحسين ( عليه السلام ) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، والتفّ الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين بايعوه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن (135) ذلك. فكتب مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به ونصرته ـ كما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ. وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم. وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان مُتعلّقاً بأستار الكعبة ! |
![]() |
![]() |
![]() |
#13 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]()
وجاء عبيد الله بن زياد ابن أبيه من البصرة الى الكوفة والياً عليها من قِبل يزيد بن معاوية ، وجعل يهدّد الناس بجيش موهوم ، قادم من الشام.
واجتمع حوله الذين كانوا لا يتعاطفون مع الإمام الحسين ، وجعل ابن زياد يُفرّق الناس عن مسلم بالتهديد والتطميع ، فانفرج الناس عن مسلم ، وتفرّقوا عنه. وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة نحو العراق كانت الأمور منقلبة ضدّ مسلم في الكوفة ، وأخيراً أُلقي عليه القبض وقُتل ( رضوان الله عليه ). وفي أثناء الطريق بلغ خبر شهادة مسلم إلى الإمام الحسين ، فكانت صدمة على قلبه الشريف. ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السيدة زينب الكبرى عائلة (138) أخيها من المدينة ؟ أم أنّها التَحقت به بعد ذلك ؟ وخَفيت علينا كيفيّة خروجها من المدينة المنوّرة إلى مكّة ، ولكنّنا نعلم أنّها كانت مع عائلة أخيها حين الخروج من مكّة ، وفي اثناء الطريق نحو الكوفة ، وعاشت أحداث الطريق من لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام في أثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد الله بن زياد. وإلى أن وصلوا إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ، ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات والحوادث. (139) يوم التروية : هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة (1) ، وهو اليوم الذي يزدحم فيه الحُجّاج في بلدة مكة المكرمة ، فالقوافل تدخل مكّة من جميع أبوابها. يوم التروية وطائفة من الحجاج يخرجون في هذا اليوم إلى منى ويبيتون فيها ليلة واحدة ، فإذا أصبح الصباح من يوم عرفة ـ وهو اليوم التاسع ـ يخرجون إلى أرض عرفات. وبعضهم يبقى في مكة حتى يوم عرفة ، ثم يخرج إلى عرفات ، إستعداداً لأداء مناسك الحجّ. 1 ـ التروية : روّى تَرويةً : تزوّد بالماء. وقد جاء في الحديث أنّه سُئل الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) عن سبب تسمية اليوم الثامن بيوم التروية ؟ فقال : « لأنّه لم يكن بعرفات ماء وكانوا يستقون من مكّة من الماء لِرَيّهم ، وكان يقول بعضهم لبعض : تروّيتم .. تروّيتم ؟؟ فسُمّي يوم التروية لذلك ». رواه الشيخ الصدوق في كتاب « علل الشرائع » ج 2 ص 141 ، باب 171. (140) في هذا اليوم الذي كانت مكة تموج بالحجّاج ، خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكّة ، بجميع من معه من الأهل والأولاد والأصحاب. إذن ، فمِن الطبيعي أن تكون مغادرة الإمام الحسين من مكة ـ في هذا اليوم ـ تجلب إنتباه الحجّاج ، وتدعو للتساؤل ، وخاصّةً بعد أن علموا بأنّ الإمام مكث في مكّة .. طيلة أربعة أشهر ، فما الذي دعاه أن يُغادر مكّة في هذا اليوم الذي يقصد الحجاج مكة لأداء المناسك الحج ؟! وما المانع من أن يبقى الإمام أياماً قلائل لإتمام حجّة ، ثم مغادرة مكة ؟ والإمام الحسين ( عليه السلام ) أولى من غيره بأداء الحج ورعاية هذه الأمور ! فلا عجب إذا تقدّم إليه بعض الناس يعترضون عليه ويسألونه عن سبب خروجه من مكة في هذا اليوم ، فكان الإمام يُجيب كلّ واحد منهم بما يُناسب مستواه الفكري والعقلي. إنّ هناك دواع ودوافع وأسباباً كثيرة اجتمعت ، وفرضت على الإمام أن يخرج من مكة في ذلك اليوم ، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذكر بعضها في كتاب ( الإمام الحسين من المهد الى اللحد ) إن شاء الله تعالى. (141) ومِن جملة الذين تقدّموا إلى الإمام وسألوه عن سبب خروجه هو عبد الله بن جعفر زوج السيدة زينب الكبرى. فإنّه حاول ـ حسب تفكيره ـ أن يَردّ الإمام عن مغادرة مكّة نحو العراق ، ولكن الإمام قال له : « إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ له ». فقال له : فما تلك الرؤيا ؟ قال : « ما حدّثت أحداً بها ، ولا أنا مُحدّثٌ بها حتى ألقى ربّي » (1). فلمّا يئس منه عبد الله بن جعفر أمر إبنَيه عوناً ومحمّداً بمرافقة الإمام ، والمسير معه ، والجهاد دونه. (2) وفي كتاب « المنتخب » للطُريحي أن محمد بن الحنفية لمّا بلغه الخبر أن أخاه الإمام الحسين خارج من مكة إلى العراق ، جاءه وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها ، وقال له : يا أخي ! ألم تَعِدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى. 1 ـ كتاب الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 219 فصل « خروج الإمام الحسين مِن مكة » ، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 366 ، باب 37. 2 ـ نفس المصدر. (142) قال : فما حمَلَك على الخروج عاجلاً ؟ فقال : قد أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعدما فارقتُك وقال : « يا حسين أُخرج إلى العراق فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً مُخضّباً بدمائك ». فقال محمد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإذا علمتَ أنّك مقتول فما معنى حَملك هؤلاء النساء معَك ؟ فقال : لقد قال لي جدّي : « إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا ، وهنّ أيضاً لا يُفارقنَني ما دُمت حيّا (1) » (2). 1 ـ المنتخب للطريحي المتوفّى عام 1085 هـ ، ج 2 ص 424 المجلس التاسع ، وروي هذا الخبر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في كتاب بحار الأنوار للمجلسي ج 44 ص 364 باب 37. 2 ـ هناك فرقٌ بين كلمة « شاءَ » وكلمة « أرادَ » ، فكلمة « شاءَ » تُستَعمَل ـ أساساً ـ في موارد معيّنة ، وتدلّ على معنى قريبٍ من معنى « أراد ». ولكن تختلف الموارد حسب الحالات المختلفة للإستعمال. بعد هذا التمهيد نقول : إنّ تأثير الإنسان في فعل الغَير هو على نوعين : (143) النوع الأول : الموارد التي تُسلب فيها مسؤولية وقوع الفِعل عن ذلك الفاعل المباشر للفعل .. لأنّ ذلك الفعل حَصَلَ ووَقَع من غير إرادة منه. مثال ذلك : أن يُربّط « زيد » « عمرواً » ثم يَرميه على رَقَبة « خالد » فيكسرها. فنلاحظ في هذا المثال أنّ الكاسر المباشر لرقبة خالد هو عمرو ، ولكنه غير مسؤول عن ذلك الكسر ، لأنّه كان بمنزلة الأداة فقط .. لا أكثر ! بل المسؤول : هو « زيد » الذي قام بربط « عمرو » وألقاه على رقبة خالد. وهذا النوع من التأثير هو الذي يُعبّر عنه بـ « الإرادة » ، لأنّ « زيد » أراد كسر رقبة خالد .. بهذه الكيفية. النوع الثاني : الموارد التي لا تُسلَب مسؤولية وقع الفعل عن ذلك الفاعل المباشر للفعل. مثال ذلك : أن يُعطي « زيد » قِنّينة خمر بيد خالد ، ويقول له : إذهب بهذه القنينة إلى المَزبَلة وفرّغها هناك ، ثم إغسل القنّينة جيّداً وجئني بها ، واعلم ـ يا خالد ـ أنّ السائل الموجود في القنينة هو خمرٌ محرّم .. وليس عصير فواكه ، فاحذر من أن تشربه ! فيذهب خالد بالقنينة إلى مكان لا يراه أحد ويشرب السائل بدلاً من أن يُريقه في المزبلة ، من دون أن يُبالي إلى نصيحة (144) « زيد » ـ الذي يَعلم صِدق كلامه ـ ، ثمّ يغسل خالد فمه ويَغسل القنينة ، ويرجع بها إلى « زيد ». وهنا ـ يا تُرى ـ هل المسؤول عن شرب الخمر هو « زيد » أم خالد ؟! الجواب : من الثابت أنّ المسؤول هو « خالد » وإن كان « زيد » مؤثّراً في فعل « خالد ». حيث إنّه كان يعلم ـ مسبقاً ـ أنّ خالداً سوف يشرب الخمر ، لعدم إلتزامه بالدين ، ولكنّ زيد قَدّم له النصائح الكافية والتحذير اللازم ، والإرشادات المُقنعة بأضرار شرب الخمر ومضاعفات ذلك. وفي هذا النوع الثاني .. يُعبّر عن هذا التأثير بـ « المَشيئة » ويُعبّر عن نيّة « زيد » بـ « شاء ». وقد جاء ـ في القرآن الكريم ـ نسبة « المشيئة » إلى الله سبحانه ، مثل قوله تعالى « يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء » ( سورة النحل ، الآية 93 ) أي : يؤثّر في إضلال بعض الناس ، ولكن .. لا بكيفيّة تُسلب عنهم المسؤولية ، بل بِجعلهم مُخيّرين في إنتخاب الهدى أو الضلال. ولذلك تجدُ أنّ المسلمين جميعاً يُكرّرون ـ في صلواتهم ـ جُملة « بحول الله وقوّته أقوم وأقعد » عند القيام من السجود الثاني أو التشهّد الأول. وهذا يوضّح المعنى ، فأنا (145) ( الإنسان ) أقوم وأقعد .. ولكن بفضل القوة الالهية التي جعلها في جسم البشر جميعاً. ولو أراد الله أن يقطع هذه القوة لَفَعَل ولتحقّق ذلك ، ولكنّه شاء أن تبقى هذه القوة موجودة إلى أجل مُعيّن. ولمزيد من التوضيح .. نذكر هذا المثال الثالث : قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : « ولو شاء الله ما اقتَتَل الذين من بعدهم ـ من بعد ما جاءتهم البيّنات ـ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، ولو شاء الله ما اقتَتَلوا ، ولكنّ الله يفعل ما يريد » ( سورة البقرة ، الآية 253 ). وهنا سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان : وهو أنّ قوله تعالى : « ولو شاء الله ما اقتتلوا » يدلّ على أن الإنسان مُسَيّر لا مُخيّر ، لأنّ في الآية تأكيد لنسبة الإقتتال إلى مشيئته سبحانه ؟ ونُجيب عن هذا السؤال بـ : أولا :قل للذي يدّعي في العلم فلسفةًحَفِظت شيئاً وغابَت عنك أشياءفإنّ اللازم أن يصرف الإنسان وقتاً كافياً لمعرفة القضايا العقائدية التي يحتاج فهمها إلى مزيد من الانتباء والدقّة. (146) ثانياً : إنّ الله ( سبحانه ) مَنَح القُدرة لجميع الناس ، وبيّن لهم طريق الخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، ونهاهم عن الشرّ والرذيلة ، ولكن لم يكن نهيه من نوع أنّه يشلّ أعضاءهم إذا أرادوا الحرام ، فإذا فَعَل العبد حراماً ، يكون هو المسؤول الأول والأخير عن ارتكابه للحرام ، ولذلك فهو يستحق العقوبة ، لكن يجوز ـ من باب المجاز ـ نسبة ذلك الفعل إلى الذي أعطى القوة لجميع الخلق ، وأراد أن يخلق خلقاً من نوع معيّن إسمه « البشر » ، يكون مخيّراً في أعماله .. لا مسَيّراً كبعض المخلوقات الأخرى ، مثل الجمادات. وهنا ملاحظة أخيرة نذكرها : وهي أنّه ـ رغم وجود موارد معيّنة لإستعمال كلّ واحدة من هاتين الكلمتين ـ إلا أنّ في اللغة العربية ـ بما في ذلك القرآن الكريم ـ ، تُستعمل كلّ واحدة من هاتين الكلمتين : « شاء » و « أرادَ » .. في موارد ومجالات الكلمة الأخرى ـ أحياناً ، أو غالباً ـ ، وهذا أمر شائع وثابت. والجدير بالذكر : أنّنا نجد ـ في الآية التي ذكرناها في المثال الثالث ـ أنّ كلمة « شاء » جاءت أولاً وأُريدَ منها معنى « المشيئة » ، ثمّ في نفس الآية جاءت كلمة « شاء » وأُريدَ منها معنى « أراد » ، ممّا يدلّ على أنّ كل واحدة من هاتين الكلمتين ـ « شاء » و « أراد » ـ تُستعمل مكان المعنى الآخر ، ولكنّ وجود الفرق بين المعنَيَين ثابت وصحيح ودقيق. (147) ونذكر ـ هنا ـ هذا الحديث ونَترك فهمه للأذكياء من القُرّاء الكرام : لقد رُوي عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ـ في حديث طويل ـ : « ... إنّ لله إرادتَين ومشيئتَين : إرادةُ حَتم وإرادة عَزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ... وأمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، وشاء أن لا يذبحه ... » المصدر : كتاب « التوحيد » للشيخ الصدوق ، ص 64. وهنا سؤال أخير : وهو : لماذا أعطى الله تعالى القُدرة لعباده على الشر والإنحراف ، مع إمكانه تعالى أن لا يُعطيهم ذلك ؟ الجواب : لقد أراد الله تعالى أن يَخلق فصيلة مُعيّنة من الخلق ـ تمتاز عن غيرها من المخلوقات ـ ، تكون لهم القدرة والإختيار على أفعال الخير وأفعال الشر ، وبيّن لهم النصائح الكافية ، على لسان الأنبياء وفي الكتب السماويّة. ولو كان الله سبحانه يُجبر الخلق على الخير وترك الشر .. لم يكن للإنسان فضلٌ على غيره من المخلوقات ! وعِلم الله تعالى بما سيفعله كل واحد من البشر .. لا يُنافي إعطائه الإختيار الكامل لهذا النوع من المخلوقات. وبعد كل هذا التفصيل ، نقول : (148) إنّ الله تعالى ما أراد أن يرى الإمام الحسين ( عليه السلام ) قَتيلاً ( أي : مقتولاً ) ولكنّه شاء ذلك ، ونَفس هذا المعنى يأتي بالنسبة إلى مأساة سَبي النساء الطاهرات. إذ من الواضح أنّ الله سبحانه الذي اختار الإمام الحسين ( عليه السلام ) مصباحاً ومَناراً لهداية الأمّة الإسلامية .. لا يريد كَسر هذا المصباح وحِرمان الأمة من بركات وجوده عليه السلام ، ولكنّه كان يعلم بأنّ أهل الكوفة سوف يَغدرون به ويَقتلونه. وبتعبير أوضح نقول : لقد كان المُخطّط الإلهي العام يَطلب من الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن يَخرُج نحو العراق ، مُلبّياً بذلك رسائل أهل الكوفة ، والتي بلغت أكثر من إثني عشر ألف رسالة ـ وكانت أكثرها جماعيّة ، أي : رسالة واحدة عن لسان 40 رجل ، تحمِل توقيعاتهم وأسماءهم ـ كلّ لك .. « إتماماً للحجّة » على أهل الكوفة ، ولئلا يكون للناس على الله حجّة ـ في يوم القيامة ـ بعد وصول الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى ضواحي الكوفة ، وتلبيته لرسائلهم الكثيرة. وكان الله تعالى يعلم أن ثمن تلبية دعوة وطلب هذا العدد الكثير من البشر .. سوف يكون غالباً جِدّاً وجداً ، وهو قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وسَبي نسائه الطاهرات ، بعد حصول الغدر الفظيع من أكثر أهل الكوفة !! (149) إلا أنّ قانون « إتمام الحجّة » كان يتطلّب ذلك. هذه سُنّة الله في الخَلق ، وعادته مع جميع الأمم والخلائق. أنّه يُوفّر ويُمهّد لهم وسائل الهداية ، ويُبقيهم على حالة الاختيار في إنتخاب المصير ، وعلى طبائع الذين يَرفضون طريق الهداية ، ويتجاوبون مع ما تُمليه عليه نفسياتهم البعيدة عن الفضائل ، ويختارون العاقبة السيئة والمصير الأسود. وبالتالي .. يَجزي الله المطيعين له ، ويُعاقب العاصين أوامره. ويمنح الدرجات العالية ـ في الجنّة ـ لعظيم أوليائه : سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ويُعوّض نساءه بأنواع النعم والكرامة ، إزاء ما تحمّلنه من المصائب .. بصبر جميل ، ودونَ أيّ إنتقاد للمقدّرات الإلهية. هذا .. والتفصيل الأكثر يحتاج الى دراسة مستقلة. المحقق |
![]() |
![]() |
![]() |
#14 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]()
لقد عرفنا أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سيفوز بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها.
ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى كربلاء منافياً للحكمة ، لأن معنى ذلك تعريض العائلة للإهانة والمكاره ، وأنواع الاستخفاف. وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته المباركة. إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء والأطراف. فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد إرتكاب (152) جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً ، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ، مثلاً !! وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ، ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير نَجد. ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين ، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً. ولا أُجيب ـ على ما ذكره أولئك الكُتّاب العملاء ـ سوى بقول الشاعر :مِن أين تَخجل أوجهٌ أمويّةسَكَبت بلذّات الفجور حياءها ؟ فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة عشر قرناً ، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة. وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) في عشرات الآلاف من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت كالقضايا البديهيّة (153) التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم. وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة كلّياً. ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف قتيل. هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ، ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره. وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي هي الكل في الكلّ عندهم !! أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) عائلته المكرّمة في تلك النهضة : إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي حوادث عاشوراء بالذات (154) لم يُبقِ مجالاً للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين. إنّ الأمويين الأغبياء ، لو كانوا يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط ، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ، مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحي ، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين. ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل آل رسول الله ( عليهم السلام ) أخذوا العائلة المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد. وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة ، وتكشف الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي. ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود العائلة ـ في هذه الرحلة ، والنهضة المباركة ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً مُكمّلاً لهذه النهضة. إنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب عظيم من الحِكمة واليقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما (155) تقتضيه الحال (1).1 ـ ولزيادة الفائدة نقول : لقد ذكر العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه « السياسة الحسينيّة » ما يلي : « وهل نشكّ ونرتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو ووُلده .. ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لَذَهَب قَتلُه جباراً ، ولم يَطلُب به أحد ثاراً ، ولَضاع دمه هدراً. فكان الحسين يعلم أنّ هذا عملٌ لابدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلا تلك العقائل ، فوجب عليه حتماً أن يحملهنّ معه لا لأجل المظلوميّة بسببهنّ فقط ، بل لنظرٍ سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليّتهم الأولى ». ويقول العلامة البحّاثة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه : « السيدة زينب بطلة التاريخ » ص 212 ما نصّه : « لقد كان من أروع ماخطّطه الإمام في ثورته الكبرى : حَملُه عقيلة بني هاشم وسار مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ، فقد كان على عِلم بما يجري عليهنّ من النكبات والخطوب ، وما يَقُمن به من دور مشرق في إكمال نهضته وإيضاح تضحيته ، وإشاعة مبادئه وأهدافه ، وقد قُمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سُباته ، وأسقطن هيبة الحكم الاموي ، وفتحن باب (156) الثورة عليه ، فقد ألقينَ من الخُطب الحماسيّة ما زَعزع كيان الدولة الأموية. إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الحسين ( عليه السلام ) واستمرار فعّالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الإمام الحسين ، فقد قُمنَ ببَلورة الرأي العام ، ونَشََرن مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب ( عليها السلام ) بتدمير ما أحرزه يزيد من الإنتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار ». ويقول الدكتور احمد محمود صبحي في كتابه « نظرية الإمامة » ص 343 : « ماذا كان يكون الحال لو قُتل الحسين ومَن معه جميعاً من الرجال إلا أن يُسجّل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيَضيع كلّ أثر لقضيّته .. مع دمه المسفوك في الصحراء ». المحقق رويَ أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمّا نزل الخزيمية (1) قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب ( عليها السلام ) فقالت : يا أخي ! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟ فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت هاتفاً يهتف ويقول :ألا يـا عيـنُ فاحتفلي بجهدعلـى قـومٍ تسـوقهم المناياومَن يبكي على الشهداء بعديبمقـدار إلـى إنجـاز وعـدِ 1 ـ الخزيميّة : نقطة توقّف ، ومحل نزول الحجّاج ، للإستراحة والتزوّد بالماء ، وتقع بين مكة والكوفة. المحقق (158) فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن. (1) وقد التقى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى « أبا هرم » ، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة ؟! فقال الإمام : « ... وَيحَك يا أبا هرم ! شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي فصبرتُ (2) ، وطلبوا دمي فهربت ! وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم. (3) 1 ـ كتاب « نفس المهموم » للشيخ عباس القمي ، ص 179. 2 ـ لعلّ ا لأصح : وأخذوا مالي. المحقق. 3 ـ الحديث مرويّ عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، مذكور في كتاب « أمالي الصدوق » ص 129 ، حديث 1 ، وذكره الشيخ المجلسي في « بحار الأنوار » ج 44 ص 310. (159) وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء الفصل السابع زَحف جيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام ) وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 61 للهجرة. فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض ؟ فقالوا : كربلاء ! فقال الإمام : « اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء » ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا. بهذا حدّثني جدّي رسول الله (162) ( صلى الله عليه وآله وسلم ). (1) قال السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف » : لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين ( عليه السلام ) يُصلح سيفه ويقول :يـا دهرُ أفٍ لك من خليلمِن طـالبٍ وصاحبٍ قتيلوكـلّ حيّ سالكٌ سبيلـي (2)كم لك بالإشراق و الأصيلو الدهـر لا يقنـعُ بالبَديلما أقربَ الوعد من الرحيلِ وإنّما الأمر إلى الجليلِ فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة ( عليها السلام ) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل ! فقال : نعم يا أختاه. فقالت زينب : واثكلاه ! ينعى إليّ الحسين نفسه. وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه ! واعليّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه ! 1 ـ كتاب « الملهوف » ص 139. 2 ـ وفي نسخة :وإنّما الأمر إلـى الجليـلما أقرب الوعد إلى الرحيلوكـلّ حيّ فإلـى سبيلـيإلـى جنـانٍ وإلى مقيـلِ (163) واحَسَناه ! واحُسيناه ! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره. (1) ورَوى الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد ) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي : قال علي بن الحسين [ زين العابدين ] ( عليهما السلام ) : إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له (2) ، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه (3) ويُصلحه ، وأبي يقول :يا دهـر أفّ لك من خليلمِـن صاحب وطالبٍ قتيلو إنّمـا الأمـر إلى الجللكم لك بالإشراق والأصيلوالدهـر لا يقنـع بالبديلوكلّ حـي سـالكٌ سبيلي فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل. وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ، 1 ـ كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 139. 2 ـ خِباء : خيمة. 3 ـ ضمير هو : يرجع إلى جوين ، يُعالج : يُحاول إعداده للإستعمال في القتال. (164) حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين ! فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة ! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان. وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، « لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ » (1). فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟ (2) فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها. فقام إليها الإمام الحسين ( عليه السلام ) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها : 1 ـ القطا : طائرٌ معروف ، واحدة : القطاة. قالوا ـ في الأمثال ـ : « لو تُرك القطا ليلاً لَنام » يُضرَبُ مثلاً لِمَن حُمِل أو أُجبِر على مكروه من غير إرادته ، وذلك أنّ القطا لا يطير ليلاً إذا أذا أزعجوه وأفسدوا عليه راحته ، فإذا طار القطا ليلاً كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحقه. ومعنى كلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) : إنّ العدوّ لو كان يتركُنا لكنّا نَبقى في وطننا في المدينة ، ولكنّه أزعجنا وأخرجَنا من بلادنا ، وسيَبقى يُلاحقنا إلى أن نَسلَم منه أو يَقتُلنا. المحقق 2 ـ أي : تُقتَل ظُلماً وقَهراً. (165) إيهاً يا أُختها ! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده. جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [ الحسن ] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُسوة. فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : « يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي (1). لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ ». ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه ... (2) أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف قائلُها ، وكان المشهور عند الناس : أنّ 1 ـ أبرّي قَسَمي : أجيبيني إلى ما أقسَمتُكِ عليه ، ولا تَحنَثي ذلك. كما في « لسان العرب ». المحقق 2 ـ كتاب ( الإرشاد ) للشيخ المفيد ، ص 232. وذكره الطبري ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ في تاريخه ج 5 ص 420. |
![]() |
![]() |
![]() |
#15 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (166) كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات. ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه. وهكذا الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات نُزول البلاء. حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل. هذا .. والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ، بعد الإنتباه إلى قول الإمام : « إذا أنا هلكتُ ». وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام وشهادته. والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها ، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند شهادة الإمام في كربلاء. وإنّما قامت ببعض هذه الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد ( لعنة الله عليه ) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين عليه السلام. (167) ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب. لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن ! كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب ؟ وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين : 1 ـ الإستسلام. 2 ـ الحرب. فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام ) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة. (170) ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله. وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب. وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم. واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً : أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟ فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الساعة في المنام ، وقال لي : « إنّك تروح إلينا ». أو « إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب » (1).1 ـ كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص 151. (171) فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت. فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله. (1). فنهض الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : « يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟ فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟ قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم ! فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم. فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بما قاله القوم. فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة1 ـ كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأول. (172) وندعوه .. فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ؟ فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك. (1) 1 ـ كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج 1 ، ص 332. (173) ليلة عاشوراء الفصل الثامن أزمة الماء إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة ؟! من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر. فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟! فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت ( عليهم السلام ). (176) وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين ( عليه السلام ) من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب. ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه : إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟ قلت : نعم ، جعلني الله فداك !! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي. فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون. ثم رجع ( عليه السلام ) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : « هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه ». ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (1) من وقتك1 ـ ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام ( عليه السلام ) قصد من الجبلين : التلال الموجودة في تلك المنطقة. (177) هذا ، وتنجو بنفسك ؟ فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه !! سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري (1). ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (2) رجاء أن يسرع في خروجه منها. فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير (3) من النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم. ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم ! ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة !1 ـ أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض. 2 ـ جنبها : أي جنب الخيمة. 3 ـ المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه. (178) فبكى ( عليه السلام ) وقال : أما والله لقد لهزتهم (1) وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (2) يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه. قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب. فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة ! قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه. فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه. فتطالعوا من مضاربهم (3) فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم !! ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث1 ـ يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان. 2 ـ الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع. 3 ـ المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة. (179) الكريهة ! هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين. أخبروني عما أنتم عليه ؟ فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته ! فقال : هلموا معي. فقام يخبط الأرض (1) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : « يا أهلنا ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا1 ـ يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض برجله. قال الخليل في كتاب ( العين ) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب. وجاء في ( المعجم الوسيط ) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً. ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو نوع خاص من المشي العشائري .. يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات. المحقق (180) في صدور من يفرق ناديكم ! (1) فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : أخرجهن عليهم يا آل الله ! فخرجن ، وهن ينتدبن (2) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟ وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،1 ـ أسنة : رماح. يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً .. كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه إي : ثبته في مكانه. كما في « لسان العرب ». ناديكم : محل اجتماعكم. النادي : مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه. 2 ـ وفي نسخة : يندبن. ينتدبن : الإنتداب : بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب ، فيكون المعنى : « يتسارعن » في خروجهن من الخيام ، أو : « يلبين » أمر الإمام لهن بالخروج لهم. قال الطريحي في « مجمع البحرين » : ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب. وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع الشخص في تلبية الطلب. كما يستفاد هذا المعنى من كتاب ( العين ) للخيل ، وكتاب ( المحيط في اللغة ) للصاحب بن عباد. المحقق |
![]() |
![]() |
![]() |
#16 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (181) واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه. (1) (2) وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب ( عليها السلام ) أنها قالت : « لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن. فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك. فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، (3)1 ـ الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه .. لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال. المحقق 2 ـ كتاب ( الدمعة الساكبة ) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه. وكتاب ( معالي السبطين ) للشيخ محمد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء. 3 ـ الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات أخرى. قال إبن منظور في ( لسان العرب ) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل : إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح. وقال ابن دريد في ( جمهرة اللغة ) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم. المحقق (182) فوقفت على ظهرها (1) فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله. ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟ قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً. (2) فقال العباس : إن هؤلاء ( أعني الأصحاب ) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم. نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة. (3) فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !1 ـ ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها. 2 ـ لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك. 3 ـ عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم .. محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد اخرى. (183) قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول : « يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله ». فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة ! فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟ قالوا : لذلك. قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك. قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم. فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه. قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ، (184) فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني (1) ، فسكنت نفسي (2) ، وتبسمت في وجهه. فقال : أخيه. قلت : لبيك يا أخي. فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟ فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا. فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟1 ـ عارضني : واجهني. 2 ـ هناك احتمالان في كيفية قراءة « فسكنت نفسي » هما : 1 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار الحزن والكآبة عن ملامحها .. لكي لا تزيد من هموم الإمام. وعلى هذا .. لا تكون الجملة تكملة .. بل جملة مستأنفة. 2 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها .. بما رأته وسمعته من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب. فتكون الجملة تكملة لـ « ففرحت من ثباتهم ». المحقق (185) فقلت : نعم. فقال : عليك بظهر الخيمة. قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : « إين إخواني وبنو أعمامي » ؟ فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً. فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا. ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟ فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله ! فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا. فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال : « يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل. (186) فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم. فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة. فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم. فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء. فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً. ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد. (1) فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟ فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي. فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه.1 ـ الرحل : ما تستصحبه في السفر .. من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد من « لسان العرب ». (187) فقال لها : دعيني والتبسم ! فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟ قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى. فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد. فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت : « والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟! أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟! أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟! والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء ». فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهو يبكي. (188) فقال له الحسين : ما يبكيك ؟ قال : سيدي .. أبت الأسدية إلا مواساتكم !! فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً. (1) 1 ـ معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء. (189) كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) ركناً مهماً في الأسرة الشريفة الطيبة ، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد كانت تشعر بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة .. بجميع أفرادها. أزمة الماء فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً لجميع أفراد العائلة ، ومعقد آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية أزمة الماء عندهم. فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء ، جرياً على عادتها وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) : (190) « عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم (1) ، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه (2) حتى صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها. فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب ، لعلها أدخرت لنا شيئاً من الماء !! فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع ، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ، وتارةً تقعد. فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق (3) بي عمتي فيزداد حزنها. فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة ؟ قلت : لبيك. قالت : ما يبكيك ؟ قلت : حال أخي الرضيع أبكاني. ثم قلت : عمتاه ! قومي لنمضي إلى خيم عمومتي ،1 ـ عز ماؤنا : صار قليلاً جداً ، أو صار عزيزاً لنفاده. المحقق 2 ـ وفي نسخة : السقاء : يعني القربة. 3 ـ تفيق : تشعر. (191) وبني عمومتي ، لعلهم ادخروا شيئاً من الماء ! قالت : ما أظن ذلك. فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء. فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو عشرين صبي وصبية ، وهم يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش ... »(1)1 ـ كتاب ( معالي السبطين ) للمازندراني ج 1 ، ص 320 ، المجلس الثامن : في عطش أهل البيت ، نقلاً عن كتاب ( اسرار الشهادة ) للدربندي. يوم عاشوراء مقتل سيدنا علي الأكبر ( عليه السلام ) مقتل أولاد السيدة زينب ( عليها اسلام ) مقتل سيدنا أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) مقتل الطفل الرضيع ( عليه السلام ) أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى ! فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً. ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة. |
![]() |
![]() |
![]() |
#17 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]()
وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو علي بن الحسين الأكبر ( عليهما السلام ) ، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً .. إنطفأت شمعة حياته المستنيرة ، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها.
وتبادر الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقطعاً بالسيوف إرباً إرباً. ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه الفاجعة المروعة ، فقد خرجت تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة ! خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : « وا ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ، واولداه ، واقتيلاه ، واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه. (198) ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى ». وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) فأخذ بيدها ، وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها. (1) 1 ـ كتاب ( معالي السبطين ) للشيخ المازندراني ، ج 1 ، الفصل التاسع ، المجلس الثالث عشر. (199) وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها السلام وأفلاذ كبدها. مقتل أولاد السيدة زينب أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت. إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه السلام. وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به. وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة. ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟! (200) وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين ( عليه السلام ) ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه. فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :إن تنكروني فأنا ابن جعفريطيـر فيها بجناح أخضرشهيد صدق في الجنان أزهركفى بهذا شـرفاً في المحشر فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي. (1) ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :أشكـو إلى الله من العدوانقـد بدلـوا معـالم القرآنفعال قوم في الردى عميانومحكـم التنزيـل والتبيان وأظهروا الكفر مع الطغيان فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي. (2)1 ـ وفي نسخة : عبد الله بن قطنة الطائي. 2 ـ كتاب ( مناقب آل ابي طالب ) لابن شهر آشوب ، ج 4 ص 106. وبحار الأنوار ج 45 ص 33. (201) ولقد رثاهما سليمان بن قبة بقوله :و سمي النبـي غودر فيهمفإذا ما بكيت عيني فجوديواندبي إن بكيت عوناً أخاهقد علوه بصارم مصقولبدمـوع تسيل كل مسيلليس فيما ينوبهم بخذول (1) أقول : لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها ، لا في يوم عاشوراء ولابعده. ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في قلبها الحزن العميق ، بل والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها ( عليها السلام ) كانت تخفي حزنها على ولديها ، لأن جميع عواطفها كانت متجهة إلى الإمام الحسين عليه السلام. (2) 1 ـ كتاب ( مقاتل الطالبيين ) لأبي الفرج الأصفهاني ، ص 91. 2 ـ وقد جاء ذكر هذين السيدين الشهيدين في إحدى الزيارات الشريفة ، التي ذكرت فيها أسماء شهداء كربلاء في يوم عاشوراء ، ومنها هذه الكلمات : « ... السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ، الناصح للرحمن ، التالي للمثاني والقرآن ، لعن الله قاتله عبد الله بن قطبة النبهاني. السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر ، الشاهد مكان إبيه ، والتالي لأخيه ، وواقيه ببدنه ، لعن الله قاتله عامر بن نهشل التميمي ... ». (202) وهناك وجه آخر قد يتبادر إلى الذهن : وهو أن بكاءها على ولديها قد كان يسبب الخجل والإحراج لأخيها الإمام الحسين ، باعتبار أنهما قتلا بين يديه ودفاعاً عنه ، فكان السيدة زينب ـ بسكوتها ـ تريد أن تقول للإمام الحسين ( عليه السلام ) : ولداي فداء لك ، فلا يهمك ولا يحرجك أنهما قتلا بين يديك. والله العالم.وأما مصدر هذه الزيارة ، فقد حكى الشيخ المجلسي في كتاب ( بحار الأنوار ) طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 98 ص 269 ، وص 271 ، عن كتاب ( إقبال الأعمال ) عن الشيخ الطوسي ... قال : خرج من الناحية سنة 252 على يد الشيخ محمد بم غالب : « بسم الله الرحمن الرحيم ، إذا أردت زيارة الشهداء ( رضوان الله عليهم ) فقف عند رجلي الحسين ( عليه السلام ) وهو قبر علي بن ا لحسين ، فاستقبل القبلة بوجهك ، فإن هناك حومة الشهداء ... ». والمقصود من جملة « خرج من الناحية » : هو كلما كان يصل إلى الشيعة من جانب الإمام علي الهادي ، ثم الإمام الحسن العسكري ، ثم الإمام المهدي ( صلوات الله عليهم ). والذي يناسب التاريخ المذكور ـ وهو سنة 252 ـ أن تكون الزيارة قد صدرت من ناحية الإمام علي الهادي عليه السلام ، والله العالم. المحقق لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس ( عليهما السلام ) تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ، فقد كانت السيدة زينب تكن إخوتها من أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع إخوانها الأكارم. وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص ـ يحترم أخته زينب احتراماً كثيراً جداً. وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة نحو العراق .. كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل سرعة .. ومن القلب. فالسيدة زينب ( عليها السلام ) محترمة ومحبوبة عند الجميع ، (204) يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل البيت. ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة : وهي أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيمات لحراسة العائلة. والعباس : إسم لامع وبطل شجاع ، تطمئن إليه نفوس العائلة والنساء والأطفال ، ويعرفه الأعداء أيضاً ، فقد ظهرت منه ـ يوم صفين ـ شجاعة عظيمة جعلت إسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة ، ولا عجب من ذلك فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال : « أخي أنت صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات ». فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين. فقال له الإمام الحسين ( عليه السلام ) : « إذن .. فاطلب (205) لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء ». (1) فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو النهر ليأتي بالماء ... ، وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ). فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على الطعن والضرب. فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين على شماله فقطع يده ، وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها ، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ، ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي ! وكان الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد وقف على ربوة عند باب الخيمة .. وهو ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها ، وإذا بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين ! فقالت زينب : أخي مالي أراك قد تغير وجهك ؟ 1 ـ كتاب « تظلم الزهراء » ص 210. (206) فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي العباس ! فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست على الأرض وصرخت : وا أخاه ! وا عباساه ! وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل ! فقال الإمام الحسين : « إي والله ، من بعده وا ضيعتاه ! وا إنقطاع ظهراه ! وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل إلى أخيه فرآه صريعاً على شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس عند رأسه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال : « يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر ظهري ، وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي ». (207) قال السيد ابن طاووس (1) : لما رأى الحسين ( عليه السلام ) مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى : مقتل الطفل الرضيع هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟ هل من موحد يخاف الله فينا ؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا ؟ فارتفعت اصوات النساء بالعويل ، فتقدم الإمام ( عليه السلام ) إلى باب الخيمة وقال لأخته زينب : ناوليني ولدي الرضيع حتى أودعه. 1 ـ في كتاب الملهوف ص 168 / وذكر في كتاب بحار الأنوار ج 45 ص 46. (208) فأخذه وأوما إليه ليقبله فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه. فقال الحسين لأخته زينب : خذيه. ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء وقال : هون علي ما نزل بي أنه بعين الله. قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض. (1) وفي رواية أخرى : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) حينما طلب طفله الرضيع ليودعه ، أقبلت السيدة زينب ( عليها السلام ) بالطفل ، وقد غارت عيناه من شدة العطش ، فقالت : يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء ، فاطلب له شربة ماء. فأخذه الإمام الحسين ( عليه السلام ) على يده ، وأقبل نحو أهل الكوفة وقال : « يا قوم : قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري ، وما بقي غير هذا الطفل ، وهو يتلظى عطشاً ، من غير ذنب أتاه إليكم ، فاسقوه شربةً من الماء ، ولقد جف اللبن في صدر أمه ! يا قوم ! إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل ، فبينما 1 ـ كتاب « معالي السبطين » ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر. (209) هو يخاطبهم إذا أتاه سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن !! فجعل الإمام الحسين ( عليه السلام ) يتلقى الدم حتى امتلأت كفه ، ورمى به إلى السماء ، وخاطب نفسه قائلاً : « يا نفس اصبري واحتسبي فيما أصابك » ثم قال : إلهي ترى ما حل بنا في العاجل ، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا في الآجل ». (1) وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لما رجع بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام ، رأى الأطفال والبنات ـ ومعهن أم الرضيع ـ واقفات بباب الخيمة ينتظرن رجوع الإمام ، لعلهن يحصلن على بقايا من الماء الذي قد يكون الإمام سقاه لطفله. فلما رأى الإمام الحسين ذلك ، غير طريقه ، وذهب وراء الخيام ، ونادى أخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر الطفل !! ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيدة زينب ( عليهما السلام ) ساعة إخراج السهم من نحر الطفل. ثم إن الإمام حفر الأرض ودفن طفله الرضيع تحت التراب. |
![]() |
![]() |
![]() |
#18 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (211) الإمام الحسين يودع ولده المريض الفصل العاشر الإمام الحسين يودع السيدة زينب الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد عودة فرس الإمام إلى المخيم ذهاب السيدة زينب إلى المعركة كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر ، دقيقة بعد دقيقة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية. وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودع ولده البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام. وكانت السيدة زينب عليها السلام ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وتكفل شؤونه. ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ، وهو طريح على (214) نطع الأديم (1) ، فلا سرير ولا فراش وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى. فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ، فلما نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال لعمته : « سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله قد أقبل ». فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى صدرها. فجعل الإمام الحسين ( عليه السلام ) يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد الله تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ، فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم منا ومنهم ». فقال : يا أبتاه أين عمي العباس ؟ فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل العباس خوفاً من أن يشتد مرضه. 1 ـ النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان. الأديم : الجلد المدبوع. (215) فقال : « يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات ». فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى غشى عليه ، فلما افاق من غشيته جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين ( عليه السلام ) يقول له : قتل. فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين ؟ فقال له : يا بني ! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى. فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم قال ـ لعمته زينب ـ : يا عمتاه علي بالسيف والعصا. فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟ قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما السيف فأذب به بين يدي أبن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه لا خير في الحياة بعده. فمنعه الحسين ( عليه السلام ) عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا ولدي ! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ، فإنهم غرباء ، (216) مخذولون ، قد شملتهم الذلة (1) ، واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان. (2) سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا ، وسل خواطرهم بلين الكلام ، فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك. دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم ». ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : « يا زينب ! ويا أم كلثوم ، ويا رقية ! ويا فاطمة ! إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمام 1 ـ الذلة على قسمين : ظاهرية وواقعية ، ولا شك أن المراد من الذلة ـ هنا ـ : الذلة الظاهرية .. وليست الوكاقعية ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « إن يوم الحسين ... أذل عزيزنا ». ولعل المقصود من الذلة : هو وقوع حفيدات النبوة وبنات الإمامة في أسر الأعداء ، ومعاناتهن من التعامل القاسي من أولئك. المحقق 2 ـ النوائب ـ جمع نائبة ـ : المصائب والمتاعب التي يراها الإنسان طوال حياته. سميت بـ « النوائب » لأن الإنسان كلما تخلص من مصيبة ظهرت في حياته مصيبة أخرى ومن نوع آخر ، فكأن المصيبة اللاحقة نابت عن المصيبة السابقة ، وحلت مكانها ، فسميت بـ « النائبة ». المحقق (217) مفترض الطاعة ». ثم قال له : « يا ولدي بلغ شيعتي عني السلام ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه ». (1) 1 ـ كتاب ( الدمعة الساكبة ) للبهبهاني ، طبع لبنان ، عام 1409 هـ ، ج 4 ، ص 351 ـ 352. المحقق يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ، لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها. ولهذا جاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق. قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها. إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ من ساعات (220) التوديع ـ كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان. فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم. فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : « يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع ! فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع .. الوداع ، الفراق .. الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟ فقال لها : « يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية. قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟ (221) فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام. فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها. ثم إن الإمام الحسين ( عليه السلام ) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : « إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم ». ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : « كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !! فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها ! فقال لها الإمام الحسين : « مهلاً يا بنة المرتضى ، إن البكاء طويل » !! ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيدة زينب وقالت : « مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن (222) نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده » ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه. فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين. فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى. فقال لها الإمام الحسين : « أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء. ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟ فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟! (1) وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : « يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل ». (2) 1 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس. 2 ـ كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58. كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب. وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟ لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل. ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة !! لقد ترك الإمام الحسين ( عليه السلام ) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام. (224) تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة. أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم. والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب. فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين ( عليه السلام ). ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة. ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات .. كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة. والآن .. نقرأ ما جاء في كتب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة : ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ، عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف ، وتقلد (225) سيفه ، واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل الكوفة بقوله : « ويلكم على م تقاتلونني ؟! على حق تركته ؟! أم على شريعة بدلتها ؟! أم على سنة غيرتها » ؟! فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين. (1) وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقف أمام القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :أنـا ابن علي الطهر من آل هاشموجـدي رسول الله أكرم من مشىكفانـي بهذا مفخـراً حين أفخرونحن سراج الله في الخلق نزهر 1 ـ معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني. |
![]() |
![]() |
![]() |
#19 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]() (226) و فـاطم أمي من سلالة أحمـدو فينـا كتـاب الله أنزل صادقاًونحـن أمان الله للنـاس كلهـمونحن ولاة الحوض نسقي ولاتناوشيعتنا في الحشر أكرم شيعـةفطـوبى لعبد زارنا بعد موتنـاو عمي يدعى ذا الجناحين جعفروفينا الهدى والوحي بالخير يذكرنسـر بهذا فـي الأنـام ونجهربكأس رسول الله مـا ليس ينكرو مبغضنـا يوم القيـامة يخسربجنة عدن صفوها لا يكدر (1) فصاح عمر بن سعد : « الويل لكم ! أتدرون لمن تقاتلون ؟! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، إحملوا عليه من كل جانب ». فحملوا عليه وحمل عليهم كالليث المغضب ، فقتل منهم مقتلةًَ عظيمة ، وكانت الرجال تشد عليه فيشد عليها ، فتنكشف عنه كالجراد1 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ، ص 48 ـ 49. (227) المنتشر ! (1) فحمل على ميمنة عسكرهم وهو يقول :الموت أولى من ركوب العاروالعـار أولى من دخول النار ثم حمل على ميسرة الجيش وهو يقول :أنـا الحسين بن علـيأحمـي عيـالات أبيآليـت أن لا أنـثنـيأمضي على دين النبي فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ ، فوقف ليستريح وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فأصاب جبهته المقدسة ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليسمح الدم عن عينه ، فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم على صدره قريباً من قلبه ، فقال الإمام الحسين : « بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي .. إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره » ! ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء ، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطخ به 1 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 50. (228) رأسه ولحيته ، وقال : « هكذا أكون حتى القى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني فلان وفلان ».(1) فعند ذلك طعنه صالح بن وهب بالرمح على خاصرته طعنةً ، سقط منها عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن ، وهو يقول : « بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ثم جعل يجمع التراب بيده ، فيضع خده عليها ثم يناجي ربه قائلاً : « صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود سواك ». ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر ، فبكى بكاءً شديداً ونادى : « واجداه وامحمداه ، وا أبتاه واعلياه ، واغربتاه ، واقلة ناصراه !! ءأقتل مظلوماً وجدي محمد المصطفى ؟! ء أذبح عطشاناً وأبي علي المرتضى ؟! ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء » ؟! (2) فخرج عبد الله بن الإمام الحسن ( عليه السلام ) وهو غلام لم يراهق ( في الحادية عشر من عمره ) من عند النساء ، 1 ـ بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53. 2 ـ نفس المصدر. (229) فشد حتى وقف إلى جنب عمه الحسين ، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه ، فأبى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا أفارق عمي وجاء حتى جلس عند الإمام ، وجعل يطلب منه أن ينهض ويرجع إلى المخيم ، وفي هذه الأثناء .. أقبل أبحر بن كعب إلى الحسين والسيف مصلت بيده ، فقال له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة اتقتل عمي ! فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده (1)وأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، ونادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الإمام الحسين وضمه إليه وقال : « يا بن أخي إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر ، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين » ، فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين. (2) وبقي الإمام الحسين ( عليه السلام ) مطروحاً على الأرض .. والشمس تصهر عليه ، فنادى شمر بالعسكر : ما وقوفكم ؟! إحملوا عليه. 1 ـ لعل المعنى : أن الغلام مد يده على جسم عمه الحسين لكي لا تصل الضربة إليه ، لكن العدو أنزل السيف ولم يرحم الغلام. أطنها : قطعها. أي : قطع السيف يد الغلام إلى الجلد. 2 ـ بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 ـ 54. (230) فحملوا عليه من كل جانب ، وضربه زرعة بن شرؤيك بالسيف على كتفه ، وطعنه الحصين بن نمير بالرمح في صدره. فصاح عمر بن سعد : ويلكم أنزلوا وحزروا رأسه ! وقال لرجل : ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه ! فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين ، فلما دنى ونظر إلى عينيه ولى راجعاً مدبراً ، فسألوه عن سبب رجوعه ؟ قال : نظرت إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله !! وأقبل شبث بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً ... وكان فرس الإمام الحسين .. فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه ( أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض ) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثم توجه نحو خيام الإمام ( عليه السلام ) بكل سرعة .. وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة. فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ، (232) يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : « وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه ». وصاحت سكينة : « قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه ». (1) 1 ـ معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب ( تظلم الزهراء ). ولما سقط الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل. ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فلم يجبها عمر بشيء. فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟! (1) فلم يجبها أحد بشيء. ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر 1 ـ وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟ (234) بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين ( عليه السلام ) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول : ءأنت الحسين ؟! ءأنت أخي ؟! ءأنت ابن أمي ؟! ءأنت نور بصري ؟! ءأنت مهجة فؤادي ؟! ءأنت حمانا ؟! ءأنت رجانا ؟! ءأنت ابن محمد المصطفى ؟! ءأنت ابن علي المرتضى ؟! ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟ (1) 1 ـ أقول : يحتمل أن السيدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال .. ومن منطلق الإستغراب حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً .. وأنها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره. (235) كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات. فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني. يا ضياء عيني كلمني. يا شقيق روحي جاوبني. فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها. فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : « أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت ». فصاحت : « وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟! روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء ». ويحتمل أنها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الإستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه ( عليه السلام ) فتعلم أنه لا زال حياً. المحقق (236) فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ). فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله. فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف. ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده. وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه. ويلك ! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟! ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل !! ... دعني أودعه ، دعني أغمضه ، ... فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها. (1) 1 ـ كتاب « تظلم الزهراء » للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ. (237) ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة زينب ( عليها السلام ) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام. ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ). فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً (1) وتراباً أحمر. فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟! فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى ! فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين ! فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي 1 ـ الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر. (238) الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه. فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت : إجلس تفديك عماتك. إجلس تفديك أخواتك. إجلس يا بقية السلف. إجلس يا نعم الخلف. وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه ... (1) 1 ـ كتاب « تظلم الزهراء » ص 233 ـ 234. (239) الهجوم على المخيمات لسلب النساء الفصل الحادي عشر إحراق خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ) السيدة زينب تجمع العيال والأطفال ليلة الوحشة ترحيل العائلة من كربلاء نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء (240)
|
![]() |
![]() |
![]() |
#20 |
♠ فاطمية مبتدئة ♠
![]() تاريخ التسجيل: Nov 2010
المشاركات: 57
معدل تقييم المستوى: 17 ![]() ![]() |
![]()
وبعد ما قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) بمدة قصيرة .. هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهم على خيولهم !! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل .. ساعة الهجوم (1) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم :
بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام. (2) طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما :1 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 135 ، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر. 2 ـ معالي السبطين ، ج 2 ص 140. (242) سعد وعقيل. (1) عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات. (2) محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات. (3) نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله : وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها !! (4). وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها .. حتى تغلب على ذلك. (5)1 ـ معالم السبطين ، ج 2 ، ص 135. 2 ـ نفس المصدر ، ص 135. 3 ـ نفس المصدر. 4 ـ الملحفة : الملاءة التي تلتحف بها المرأة ، كما في « أقرب الموارد ». ويعبر عنها ـ حالياً ـ بالعباءة والإزار. المحقق 5 ـ كتاب معالي السبطين ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني. أي : (243) وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء. (1) قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام وقالت : « يا آل بكر بن وائل اتسلب بنات رسول الله ؟! لا حكم إلا لله !! يا لثارات رسول الله !! » فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله. (2) قالت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام : « كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابهكانت المرأة تمسك عباءتها وحجابها بقوة ، وكان الأعداء يسحبون ويجذبون عنها ذلك ، ويضربونهن على أيديهن بالعصي والسياط لكي يستطيعوا سلب ما عليهن من أزر ومقانع !! المحقق 1 ـ كتاب ( الملهوف ) لابن طاووس ، ص 181. 2 ـ نفس المصدر. (244) مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول !! وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي .. من بني أمية ! أيقتلوننا أم يأسروننا ؟ فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة(1) وهن يصحن : « وا جداه ! وا أبتاه ! وا علياه ! وا قلة ناصراه ! واحسيناه ! أما من مجير يجيرنا ؟ أما من ذائد يذود عنا ؟ » قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي (2) يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني. فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظن أني أسلم منه !! وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشيةً منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي1 ـ أخمرة ـ جمع خمار ـ : ما تغطي به المرأة رأسها. أسورة ـ جمع سوار ـ : حلية ـ كالطوق ـ تلبسها المرأة في زندها أو معصمها ، ويعبر عنها ـ أيضاً ـ : بالمعاضد. 2 ـ أجيل بطرفي : أدبر بعيني وبصري. (245) فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى المخيم وأنا مغشي علي !! وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول : قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات ، وعلى أخيك العليل ؟ فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها. وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا !! (1) وروي عن السيدة زينب ( عليها السلام ) أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين (2)فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم (3) وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض !!1 ـ بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61. 2 ـ وهو خولى بن يزيد الأصبحي. كما في كتاب ( اسرار الشهادة ) للدربندي الطبعة الحديثة ، ج 3 ص 129. 3 ـ النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان. الأديم : الجلد المذبوغ. (246) قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من الرجالة ، وهم يقولون [ له ] : ألا تقتل هذا العليل ؟ فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟! إنما هو صبي. فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ، فألقت زينب ( عليها السلام ) بنفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل. فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض ؟! فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين. فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه. (1)1 ـ كتاب معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني. وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129. ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام. فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء .. وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى ( عليها السلام ) أقبلت إلى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقالت : يا بقية الماضين وثمال الباقين ! (1) قد أضرموا النار في مضاربنا (2) فما رأيك فينا ؟1 ـ الثمال ـ على وزن كتاب ـ : الغياث الذي يقوم بأمر قومه ، يقال : فلان ثمال قومه : أي غياث لهم. كتاب « مجمع البحرين » للطريحي. 2 ـ المضارب : الخيام. (248) فقال ( عليه السلام ) : عليكن بالفرار. ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات. قال بعض من شهد ذلك : رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج. فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟! وما شأنك ؟! فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (1) وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين. (2)1 ـ معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث. 2 ـ كتاب « الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب ». (249) أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة !! كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟! فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟! إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين. إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام. إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ). لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده ( عليه السلام ) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين ( عليه السلام ) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء ! ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب ( عليها السلام ) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد إسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها ! (252) وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال ! ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب ( عليها السلام ) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً .. وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش !! ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال ... (1) وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، إسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب. وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. (2)1 ـ كتاب « الإيقاد » للسيد محمد علي الشاه عبد العظيمي ، الطبعة الحديثة ، ص 139. 2 ـ معالي السبطين ج 2 ، الفصل 12 ، المجلس الرابع. (253) باتت العائلة المفجوعة ليلة الحادية عشرة من المحرم بحالة لا يستطيع أي قلم شرحها ووصفها ، ولا يستطيع اي مصور أن يصور جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة. ليلة الوحشة قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرمة وهي تملك كل شيء ، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً. رجالها صرعى مرملون بدمائهم ، وأطفالها مذبحون ، والأموال قد نهبت ، والأزر والمقانع سلبت ، والظهور والمتون قد سودتها السياط وكعاب الرماح. ليس لهم طعام حتى يقدموه إلى من تبقى من الأطفال ، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جف اللبن في صدورهن جوعاً وعطشاً. واستولت على العائلة ـ وخاصةً الأطفال ـ حالة الفواق ، وهي (254) حالة تشنج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً ، فتتشنج الرئة ، ويخرج النفس متقطعاً. يا للفاجعة ، يا للمأساة ، يا للمصائب. لا غطاء ، ولا فراش ، ولا ضياء ، ولا أثاث ، ولا طعام. قد أحدقت السيدات بالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وهو بقية الماضين ، وثمال الباقين ، وهن يتفكرن بما خبأ لهن الغد من أولئك السفاكين. فالفاجعة لم تنته بعد ، والظلم ـ بجميع أنواعه ـ بالنتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين ، والحوادث المؤلمة سوف تمتد إلى غد وما بعد غد ، وإلى أيام وشهور ، مما لا بالبال ولا بالخاطر. وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والأهات والدموع. وحكي أن السيدة زينب ( عليها السلام ) تفقدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة ، وإذا بالسيدة الرباب لا توجد مع النساء ، فخرجت السيدة زينب ومعها أم كلثوم ، وهما تناديان : يا رباب .. يا رباب. فسمعها رجل كان موكلاً بحراسة العائلة ، فسألها ماذا تريدين ؟! فقالت السيدة زينب : إن إمرأةً منا مفقودة ولا توجد مع النساء. (255) فقال الرجل : نعم ، قبل ساعة رأيت امرأة منكم إنحدرت نحو المعركة ! فأقبلت السيدة زينب حتى وصلت إلى المعركة ، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح ، وتقول في نياحتها :وا حسيناه وأين مني حسينغادروه فـي كربلاء قتيلاًأقصـدته أسنة الأدعيـاءلا سقى الله جانبي كربلاء فأخذت السيدة زينب ( عليها السلام ) بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال. وفي هذا الجو المتوتر ، والوضع المقرح للفؤاد ، يقول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : « فتحت عيني ليلة الحادية عشر من المحرم ، وإذا أنا أرى عمتي زينب تصلي نافلة الليل وهي جالسة ، فقلت لها : يا عمة أتصلين وأنت جالسة » ؟ قالت : نعم يابن أخي ، والله إن رجلي لا تحملني !! (1)1 ـ كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 58. |
![]() |
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الفاطميات الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 (0 فاطمية و 1 زائرة ) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
فواصل بذكرى استشهاد السيدة زينب الكبرى عليها السلام | ::: يا فاطمة الزهراء ::: الميامين | فواصل وأكسسوارات لتزيين المواضيع والردود | 22 | 29-04-2016 07:35 PM |
تصميم زيارة العقيلة زينب الكبرى عليها السلام يقع في 4 صفحات | ::: يا فاطمة الزهراء ::: الميامين | سما الأبداع - برامج التصميم فوتوشوب,فلاش - موسوعة تصاميم | 19 | 23-04-2016 05:43 AM |
المكتبة المصورة لمرقد السيدة زينب الكبرى عليها السلام ... عدد 35 | ::: يا فاطمة الزهراء ::: الميامين | الملحقات الولائية و الاسلامية و الدينية :: لا للمنقول :: | 15 | 03-05-2015 09:55 PM |
صورتين لمرقد السيدة زينب الكبرى سلام الله عليها ... مفرغة الخلفية عالية الدقة | ::: يا فاطمة الزهراء ::: الميامين | الملحقات الولائية و الاسلامية و الدينية :: لا للمنقول :: | 8 | 29-04-2012 02:59 PM |
أمّ المؤمنين السيدة خديجة الكبرى عليها السلام | nono moon | أهل البيت (عليهم السلام) سيرة اهل البيت - مكتبة اهل البيت - موسوعة شاملة عن أهل البيت (ع) | 1 | 23-09-2010 12:42 PM |