زهده وعبادته
عُرف الإمام العسكري (عليه السلام) في عصره بكثرة
عبادته وتبتّله وانقطاعه الى الله سبحانه واشتهر ذلك
بين الخاصة والعامة، حتى أنّه حينما حبس الإمام
(عليه السلام) في سجن علي بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب ـ ما كان من علي هذا إلاّ أن وضع خديهله وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عندهوهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه.
ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ علي بن جرين عن أحوال الإمام (عليه السلام) وأخباره في كل وقت فيخبره علي بن جرين أنّ الإمام (عليه السلام) يصوم النهار ويصلي الليل.
2-عن بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار قال:
دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن
عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على
صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد(عليهما السلام) .
فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ
من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام
الى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا:
ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه،
لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا
ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا،
فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين.
3-عن محمّد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمّد فقالوا له: ضيّق عليه، قال: وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه
عليّ بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصّلاح الى أمر عظيم يضعان خدّيهما له، ثم أمر باحضارهما
فقال: ويحكما ما شأنكما
في شأن هذا الرجل؟ فقالا:ما تقول في رجل يقوم اللّيل كلّه ويصوم النّهارولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا.وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليلفيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه.
إنّ سلامة الصلة بالله سبحانه وما ظهر على يدي الإماممن معاجز وكرامات تشير الى المنزلة العالية
والشأن العظيم للإمام (عليه السلام) عند الله الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّى في إمامته (عليه السلام)
![](http://www.noorfatema.net/up/uploads/12823029511.gif)
ظروف نشأته وإمامته عليه السلام
نشأ الإمام أبو محمد (عليه السلام) في بيت الهداية
ومركز الإمامة الكُبرى،وقد وصف الشبراوي هذا البيت
الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً:
فللّه درّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضم المنيف،
وناهيك به من فخار، وحسبُك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ» ،
انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم، والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه».
لقد ظفر الإمام أبو محمد بأسمى صور التربية الرفيعة
وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه
حيث (يسبّح له فيها بالغدو والآصال*
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله )،
ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون
هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل
رسالة الله. وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) لم يفارقه في حلّه وترحاله،وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)،
كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة
والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه، ولقد أشاد الإمام الهادي (عليه السلام) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:
«أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلى الله عليه وآله)
غريزةً وأوثقهم حجة . وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها»
وقد لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه طيلة عقدين
من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء. وانقل الإمام العسكري
(عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء)
حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل
فأشخصه عن المدينة حتى صار إلى بغداد، فلما كان
بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب اسحاق
بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم
لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى».
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا من زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء ، وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام والتضييق على الإمام الهادي في كل جوانب الحياة حتى أنه كان يحسب عليه أنفاسه, فأمر بالأقامة الجبرية ومُنِع عليه السلام من الأتصال بالناس.
وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشهاالإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناًوقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة.
وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الامامة بعده.
لقد كثرت النصوص من الإمام الهادي (ع) على إمامة ولده العسكري (ع) بمحضر من جماعتة في المدينة وسامراء، وكان (ع) كثيراً ما يقول على ما روي: إن صاحب هذا الأمربعدي هو ابني " أبو محمد "(ع) دون بقية أولادي،وإن عنده ما تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله، ويؤخر ما يشاء الله
قال تعالى ((ما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها
أو مثلها))
والإمام بعده ابنه القائم (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً،
بعدما مُلئت ظلماً وجورا.
![](http://www.noorfatema.net/up/uploads/12823029511.gif)
زوجاته وأولاده
تزوج الإمام العسكري (ع) جارية رومية أسمها نرجس
هي أم الإمام المنتظر(عج)،
وقد جاء في المصادر في كرامات هذه السيدة الجليلة
إن رسول الله (ص) خطبها له في المنام، وبشرها بأنها تلد له ولداً يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً،
بعدما ملئت ضلماً وجورا، وإن المسيح (ع) زوجه أياها في المنام..
ولم يخلف الإمام العسكري (ع) من الأولاد سوى الإمام القائم الحي محمد بن الحسن المهدي (عج) الموجود منذئذٍ إلى يومنا هذا، وهو الحجة الغائب المنتظر المستترعن الابصار، عليه وعلى آبائه المعصومين الطاهرين صلوات الله الملك الجبار.
الإمام العسكري عليه السلام
وتحديات عصره..
عاصر الإمام العسكري (ع) خلال عمره القصير، المعتز بن المتوكل، بقية أيامه - بعد شهادة الإمام الهادي (ع)
وبعده المهتدي بن الواثق،الذي حكم أحد عشر شهراً،
ثم المعتمد احمد بن المتوكل الذي حكم ثلاثاً وعشرين سنة، وكانت شهادة الإمام العسكري (ع) في أوائل
حكم المعتمد.
وكماأسلفنا بالذكر فأن الإمام قد ورث عصراً تتلاطم فيه
رياح البغض والغدر وسمات العداءوالنصب والكراهية
لآل البيت عليهم السلام..فكانت الأضطرابات السياسية والأجتماعية والثقافية والأقتصاديةعلى أوجها وسوء مآل حالها وواقع أهدافها.
وطوال مدة خلافته (ع) التي لا تتجاوز الست سنين،
كان ملازماً التقية، وكان منعزلاً عن الناس حتى الشيعةولم يسمح إلا للخواص من أصحابه بالأتصال، ومع كل هذا،فقد قضى زمناً طويلاً في السجون.والسبب في كل هذا الأضطهاد هو;
أولاً:
كان قد وصل عدد الشيعة إلى حد يلفت الأنظار،
وإن الشيعة تعترف بالإمامة، وكان هذا الأمر واضحاً
جلياً للعيان، فكانت الحكومات أنذاك تتعرض للأئمة (ع) وتراقبهم وكانت تسعى للإطاحة بهم وإبادتهم بكل الوسائل الخفية
ثانياً:
اطلعت الدولة العباسية على أن الخواص من الشيعة
تعتقد أن للإمام الحادي عشر ولداً، طبقاً للروايات الواردةعن الأئمة عن النبي (ص) ويعتبرونه الإمام الثانيعشر لهم.
ولذا كان الإمام العسكري كوالده (ع) مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الحضور لبلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس.ولكن الإمام (ع) كآبائه في موقفه من الحكام، وقف موقفاً
حذراً ومحترساً في علاقته بالحكم، دون أن يثير أي
أهتمامأو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه،
بل كانت علاقته بالحكم روتينية رتيبة، تمسكاً بخط
أبائه (ع) تجاه السلطة العباسية، وقد أكسب هذا الموقفالإمام (ع) الأحترام والمنزلة الرفيعة أمام الحكام
وتمثلت مواقفه العلمية بردوده المفحمة للشبهات الإلحادية ـ وإظهاره للحق باسلوب الحوار والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية، وكان يردف
هذا النشاط بنشاط آخر باصداره البيانات العلمية
وتأليفه الكتب ونحو ذلك.
ومن هنا جاء موقف الإمام العسكري (ع) واهتمامه وهوفي المدينة المنورة بمشروع كتاب يضعه الكندي أبو يوسف يعقوب بن اسحاق" فيلسوف العراق في زمانه "، حول متناقضات القرآن إذ اتصل عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته واحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنهاخطأ، وجعله يتوب ويحرق أوراقه إلى غير ذلك.
![](http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcRIcdzNEC4ibfj6xHoucZyHQruxPuxMEFkEI26pT9CxnPqIYAeL&t=1)
الإمام العسكري(ع) ...والتمهيد للغيبة
بعظيم علمه ودرايته وحلمه وكنه معرفته للأمور ولجل
التحديات وماسعى إليه للحفاظ على النهج الديني والعلمي والثقافي والأجتماعي للرسالة السماوية فقد كانت من أولويات أهتماماته هو موقفه (ع) من التمهيد للغيبة.
إن الإمام العسكري (ع) حين يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله في أرضه وتطبيقها على الإنسانية أجمع، والأخد بيد المستضعفين في الأرض ليبدل خوفهم أمناً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً.
يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد لغيبة ولده، وذلك لأن
البشر إعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب
على الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوزإلى تفكير واسع.ولم يكن مجتمع الإمام (ع) الذي عاصر مواقفه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام حادث لا مثيل له في تاريخ الأمة.
والنصوص المتواترة الصحيحة عن النبي (ص) لها أثرها الكبير والفاعل في ترسيخ فكرة إنتظار المهدي (عج)
في نفوس المسلمين بشكل عام، وهذه الروايات
عون للإمام العسكري (ع) لكي يقنع الناس بالإيمان
بالغيبة من ناحية ، ويبرهن للناس تجسيد الغيبة في
ولده المهدي من ناحية أخرى .