الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني ـ 31
كل الحسنات والأعمال الصالحة تذهب هباء ما لم يسحق الإنسان نفسه/ما الذي جرى في كربلاء بحيث قام بعض المصلين هناك بأبشع جرائم تاريخ البشر؟/ المتدين إن لم يجاهد نفسه، فلعله يقوم بجرائم لا تصدر حتى من الكفار/ إن جهاد النفس أمر ضروري في سبيل أن لا ينشأ إرهابيون مثل إرهابيي سورية
الزمان: 16/08/2013
المكان: طهران ـ مسجد الإمام الصادق(ع)
استمرّت جلسات هيئة محبي أمير المؤمنين(ع) الأسبوعية في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» تكملة للأبحاث التي طرحها في شهر رمضان. فإليكم أهم المقاطع من كلمته:
من الصعب أن نعتبر نفسنا عدوّة وهذا ما يحتاج إلى تلقين/ لقد سبقنا إبليس والهوى في إدارة تلقيناتنا
لقد ذكرنا في الجلسة السابقة أن الخطوة الأولى بعد معرفة ضرورة جهاد النفس، هي أن نتخذ نفسنا الأمارة عدوّة ونشمئزّ منها. يعني لابدّ أن تكون رؤيتنا تجاه نفسنا كرؤيتنا إلى ألدّ الأعداء. طبعا من الصعب جدا أن نتخذ نفسنا عدوّة وهذا ما يحتاج إلى تلقين وتفكير وتأمّل ولا تكفينا المعلومات وحسب. لقد أكّد الإمام الخميني(ره) على أهمية التلقين ودوره في الرشد المعنوي؛ «يزعم بعض الناس [أن لا فائدة في هذا التكرار فيتساءل ويقول:] لماذا؟ في حين أنه ضروري. أحد الأمور النافعة لبناء الإنسان هو التلقين. فإذا أراد الإنسان أن يبني نفسه، يجب أن يلقّن نفسه بالقضايا المرتبطة ببناء نفسه، ويكرّر ذلك. فالأمر الذي يفترض أن يؤثر في نفس الإنسان، يزداد بالتلقين والتكرار وقعا في نفس الإنسان.» [صحيفة الإمام (الفارسية)/ج13/ص397]
يجب أن يستطيع الإنسان أن يلقّن نفسه ويخصّص وقتا لذلك. ولكن ومع الأسف قد فقدنا زمام المبادرة والإدارة في تلقين أنفسنا وتصدّى الآخرون من الإعلام والأفلام وكلام الناس لتلقيننا. وإذا حاولنا أن نلقّن أنفسنا فغالبا ما يدور تلقين نفسنا حول مواضيع وأفكار سلبية غير صحيحة من قبيل الأفكار غير المرضية عند الله الناشئة من كفران النعم وعدم الشكر والحسد والحسرة على ما مضى والخوف السلبي من المستقبل. فكلّها تلقينات سلبية ليس فيها تلقين إيجابي. وهذا يعني أنه قد سبقنا إبليس والهوى في إدارة تلقيناتنا. علينا أن نستلم زمام إدارة تلقيننا ونلقّن أنفسنا بأفكار إيجابية، فإن نجحنا في تلقين أنفسنا يجب أن نجعل هذه الفكرة والمعلومة في مقدمة ما نلقّن به أنفسنا وهي أنه «أعدى عدوّنا نفسنا ولابدّ من محاربتها».
معاداة النفس يأتي بجميع الخيرات/ كل الحسنات والأعمال الصالحة تذهب هباء ما لم يسحق الإنسان نفسه
لا شك في أن أولياء الله مثل السيد الإمام(ره) وآية الله بهجت(ره) وآية الله حقشناس(ره) وآية الله خوشوقت قد سلكوا هذا الطريق في بداية سلوكهم.
قال نجل آية الله العظمى الشيخ بهجت(ره): سألت والدي عن السيد الإمام(ره) هل كان قد مارس العرفان العملي أيضا؟ فأجابني بنعم. فقلت له: انقل لي شيئا عنه. فقال والدي: «ذات يوم كنت ضيفا عنده فقدّم لنا مرقة الاسبيناغ (قرمه سبزي) ولكنه لم يطعمها. فسألته لماذا لم تأكل منها شيئا؟ قال: لم آكلها لأني أحبها جدّا!» [مقابلة حجة الإسلام علي بهجت مع وكالة فارس للأنباء]
عندما أراد آية الله بهجت أن يذكر نموذجا أو حكاية عن مرتبة الإمام الخميني(ره) في العرفان العملي، ذكر قصة امتناعه عن أكلته المفضلة. في حين كان بإمكان الشيخ بهجت أن يتحدث عن مدى معرفة الإمام(ره) بالله أو عن محبته لأهل البيت(ع)، أو حتى عن مدى التزامه بأوقات الصلاة. فلماذا ذكر حكاية عن مخالفة الإمام(ره) لهواه؟ لأن من يسحق نفسه ويخالفه هواه يصل إلى كل شيء من معرفة الله وحبّ أهل البيت(ع) والتقيّد بأوقات الصلاة وغيرها. وبالإضافة إلى ذلك إنكم إن أحصيتم إيجابيات امرء وخصائصه الحسنة، فإن لم يكن مّمن يجاهد ويسحق نفسه، فسوف يفقد كل إيجابياته وحتى قد تتحوّل محاسنه إلى مساوئ.
كثير من المتديّنين لم يتخذوا نفسهم عدوّا وإنها لظاهرة خطرة جدّا!/ إن لم نجاهد أنفسنا، فقد تستغلّ جميع خصالنا الحسنة في خدمة هوى نفسنا
بعد أن عرفنا أن الطريق الوحيد المؤدي إلى مقام القرب الإلهي هو «جهاد النفس» ولا باقي الأعمال الصالحة، ـ فإن جميع الأعمال الصالحة الأخرى هي من لوازم جهاد النفس أو مقدّماتها أو من شعبها ـ الخطوة الأولى هنا هي أن تشمئز من نفسك وتخاف منها وتتقيها وثم تصرعها. يعني أن تكون رؤيتك سلبية تجاه نفسك وتبغضها بصفتها عدوة لك. فقد قال أمير المؤمنين(ع): «کُن أوثَقَ ما تَکونُ بنَفسِكَ، أحذَرَ ما تَکونُ مِن خِداعِها» [غرر الحكم/530]
بالرغم ممّا أكد عليه الدين مرارا من أن «أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَينَ جَنْبَيك» [ميزان الحكمة/12182] ولكن لعلنا نستطيع أن نقول إن أكثر المتدينين لم يعادوا نفسهم وحتى لم يتخذوها عدوّة لهم، وإنها لظاهرة خطرة جدّا. إن من عادى نفسه تراه يوميا في حال المراقبة والحرب والجهاد ضدّ نفسه. فقد قال أمير المؤمنين(ع): «ينْبَغي للعاقِلِ أنْ لايخْلو في کُلِّ حالَةٍ عَن طاعةِ ربِّهِ و مُجاهَدةِ نَفْسِهِ» [غرر الحكم/3492]
يجب أن نفتّش أنفسنا لنرى هل تنطوي على بغض وحقد تجاه عدوّ باسم «النفس»؟ ومع الأسف أغلبنا يفتقر للحقد والبغض الذَين يجب أن نتّصف بهما تجاه النفس.
يجب على كلّ واحد منّا أن يتصفّح أحواله يوميّا ليرى كم قد صرع نفسه في اليوم وكم قد هزم منها. فعلى سبيل المثال لعلّك تكاسلت عن أداء صلاتك لوقتها، ولكنك أديتها في أول الوقت رغما على هواك، فهذا يعني أنك قد صرعت نفسك مرّة واحدة. ولكنك بعد ذلك جلست على التلفاز وبدأت تتفرج فلما غير ضروريّ وكان بإمكانك أن تقوم بفعل أنفع بدل ذلك. فبعد ما قررّت على ترك متابعة الفلم تثاقلت ولم تقدر على ذلك، فانهزمت من نفسك.
فراجع أحوالك يوميّا وانظر كم قد صرعت نفسك؟ وكم قد صرعتك نفسك؟ هذه هي القضية الرئيسة. ضع حسناتك وأخلاقك الحميدة وسخاءك وباقي سجاياك الحسنة على جانب ولا تغترّ بها، فلا تطبّب هذه الصفات شيئا من أدواء روح الإنسان بلا جهاد النفس، ولا تأخذ بيد الإنسان إلى الهدف المقصود. لأننا إذا لم نجاهد أنفسنا فسوف نستغلّ رأفتنا ومحاسننا كلّها لصالح هوى نفسنا، وفي الواقع هذا يعني أن نفسنا الأمارة بالسوء قد استولت علينا وبدأت تستثمر كلّ محاسننا لصالحها. فعلى سبيل المثال قد تقول لنا نفسنا: «إنك إنسان سخيّ، فأظهر الآن شيئا من سخائك لكي أزداد جاها واعتبارا»! يعني نجود تلبية لهوى نفسنا لا مخالفةً لها!
القضية الرئيسة والنزاع الرئيس مع النفس. فليس عدوّك مساوئك ولا سلوكك السلبي، بل عدوّك نفسك! هذه النفس التي قد تدعوك إلى العمل الصالح أحيانا، ثم تدفعك إلى جهنّم بهذا العمل الصالح! كما أن عبادة إبليس لمدة 6000 سنة لم تنقذه من نار جهنّم. لذلك فأولئك الذين يتصّفون بصفات إيجابيّة وحسنة، فإن لم يسحقوا نفسهم الأمارة، سوف تتحوّل محاسنهم وإيجابياتهم إلى مساوئ ورذائل.
يجب أن نتحسّس عداء نفسنا لنا وندرك أن هذا العدوّ الخطر لا ينفكّ عنا أبدا
يجب أن نتحسّس عداء نفسنا لنا وندرك أن هذا العدوّ الخطر لا ينفكّ عنا أبدا وسيلحق الضرر بنا قطعا. إنك لا تستطيع أن تأمن شرّ هذا العدوّ إلا بعد أن تقضي عليه. نحن إن حملنا هذه الرؤية وأيقنّا أن نفسنا هي أخبث أعدائنا، عند ذلك سوف نقوى على محاربتها ومقاتلتها. فقد قال أمير المؤمنين(ع): قَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ تَمْلِكْ رُشْدَك» [غرر الحکم/الحديث818] المجاهدة بمعنى السعي والمبارزة، أمّا المقاتلة فتعبّر عن الحرب والمعركة التي يخوضها الرجال في سبيل قتل الخصم. لذلك فقد عبّر أمير المؤمنين(ع) عن الفائزين في هذه الحرب، «مَيتَةً شَهْوَتُهُ» [نهج البلاغة/الخطبة193]
لم يقل أمير المؤمنين(ع) في الحديث السابق: «لا تتّبع هواك» بل قال: «قاتل هواك»، يعني المحاربة حتى القتل. لماذا؟! لأن النفس لا تنسحب بأول تمرّد عليها، فإن لم تتّبعها في مرّة، تعود لتغريك في مرّة أخرى، إلى أن تطعن بك. لذلك يجب أن تحاربها حتى القضاء عليها وقتلها؛ «مَيتَةً شَهْوَتُهُ».
هكذا عبّر رسول الله(ص) عن خطر النفس إذا قال: «اِستَعيذوا باللّهِ مِن الرَّغَبِ» [کنز العمّال/ الحديث6160] يعني استعذ بالله من أن ترغب في شيء رغبة شديدة. لأن من شأن هذه الرغبة الشديدة أن تهلكك. ما هو الأمر الذي يكرهه الناس جدّا ويستعيذون بالله منه؟! لعلهم يستعيذون بالله من السرطان أو من الاصطدام. بينما رسول الله(ص) أوصانا أن نستعيذ بالله من الرغب ومن أن نكثر الحبّ لشيء ما. يعني أن نقول: «الهي احفظني من أن أتورّط بحبّ شيء والتعلق الشديد به». هكذا يجب أن ننظر إلى أميالنا ورغباتنا النفسية.