رد: دروس من ثورة الحسين عليه السلام
الدرس الخامس
ان وجود الصفوة أو النخبة مطلوب دائماً، لان هذه الصفوة بمثابة الذراع الايمن للحركة الاصلاحية.
وقد ذكرنا في بعض كتاباتنا اننا بحاجة الى قاعدة وسطى، تكون بمثابة الجسر او الواسطة بين القيادة والجماهير، وتمد كل طرف بما يحتاجه ويكون عملها خالصاً لله تعالى من دون أي تفكير في مصلحة دنيوية او منصب معين، فهي ترفد الامة بالعناصر النموذجية الموجِّهة، كما انها ترفد القيادة باحتياجاتها الشعبية والميدانية.
فهذه القاعدة (النخبة) امر ضروري للعمل المثمر، ولعل نظرة سريعة في التأريخ تؤكد اهمية هذه الصفوة، فهناك صفوة الانصار والاصحاب في كل زمان ومكان..
فالإمام علي (ع) وابو ذر وسلمان وعمار ونحوهم كانوا يمثلون هذه الثلة في عهد النبي محمد (ص).
ومالك الأشتر وكميل وميثم التمار ونحوهم كانوا يمثلون النخبة في عهد الامام علي (ع).
وهكذا حتى ظهور المهدي (ع) حيث يوجد لديه صفوة قوامها ثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً.
وهكذا كان الحال في عهد الحسين (ع)، فقد اجتمعت لديه ثلة طاهرة نـقية، كانت رافداً حيوياً للثورة الحسينية رغم قلة العدد وخذلان القواعد.
هؤلاء الانصار استحقوا بجدارة قول الامام الحسين (ع) لهم :
(أما بعد فاني لا اعلم اصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا اهل بيت ابر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً).
فقد اسقط التكليف عنهم، واشفق عليهم من سفر الشهادة، واختار اشد الامور على نفسه، ألا وهو الجهاد وحيداً فريداً، وأذِن لهم بالتراجع قائلاً:
(قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل، ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم فان القوم انما يطلبونني، ولو اصابوني لذهلوا عن طلب غيري).
نتوقف هنا لنتأمل كيف ان الحسين (ع) وهو القائد العظيم يحاول ان يحمي اصحابه، ويفديهم بنفسه، بل لنقل انه يحاول ان يسبقهم الى مراتب الشهادة، ليكون قائدهم الحقيقي في هذه الدنيا وفي الاخرة.
ويأبى هؤلاء الأنصار والأصحاب، فهم يتعلمون منه هذه الدروس ويطبقونها في الحال، فيعاهدونه على البقاء، ويفتخرون بالموت معه على هذا الطريق الشريف.
فهذا مسلم بن عوسجة يقول للحسين (ع) :
(انحن نخلي عنك، وبماذا نعتذر الى الله في اداء حقك، اما والله لا افارقك حتى اطعن في صدورهم برمحي واضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة حتى اموت معك).
وقال آخر :
(اما والله لو علمت انني أُقتل ثم احيا ثم أُحرق حيا ثم أُذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك).
وقال زهير:
(والله وددت أني قُتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا الف مرة وان الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنـفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك).
حتى نساء الانصار كانت مواقفهن مشرفة وعظيمة، وكانت بعضهن يلبسن اطفالهن ملابس الحرب والقتال.
وكذلك الاطفال يخرجون الى الموت بقلب ثابت وشجاعة فائقة.
انهم بالتأكيد نوعية فريدة، رغم انهم أناس مثلنا وبنفس مواصفاتنا العامة..
إلا اننا نسأل انفسنا اليوم، كم منا من يقدر ان يكون بمستوى انصار الحسين (ع) ليقاتل اليوم ضد يزيد بمختلف عناوينه ومصاديقه؟!.
يروى ان احد الانصار وقع جريـحاً في المعركة وظنوا انه قتل، فلما انتهت المعركة وسمعهم يقولون، قُتل الحسين (ع) تحمل جراحاته، وقام وهو يحمل سكيناً يقاتل به حتى استشهد، فقد اراد ان يكون رفيق الحسين (ع) في يومه وساعته، رغم انه رفيقه في دربه ومسيرته.
اننا بحاجة ماسة الى دراسة نقية وصحيحة وواعية لحياة هؤلاء الانصار، فهذه المواقف لم تولد من فراغ، ولم تحصل لاسباب عاطفية، وانـما هي مواقف مبدأية راسخة، لها جذور ومقدمات مميزة جعلتهم يستحقون هذه المرتبة، كل على حسب استحقاقه.
فالحر الرياحي مثلاً وان نال مرتبة الشهادة وفاز بنصرة الحسين (ع) الا انه لم يكن بمستوى سائر الانصار لأنه تأخر عنهم، ولذلك لم يحظَ بشرف الدفن بجانب الحسين (ع)، رغم ان مرقده شامخ ايضاً على مر العصور.
في حين ان العباس (ع) كان له دور اكبر من سائر الأنصار، وكان يمثل قمة التضحية والفداء والإيثار، حيث قدم اخوته واحداً واحداً، وجاد بنفسه ايضاً، بعد ان اعطى درساً في مجاهدة النفس والسيطرة التامة عليها، حين امتنع عن شرب الماء كما في الرواية احتراماً لأخيـه ومواساة له..
وانشد قائلاً :
يا نفس من بعد الحسين هونـــي وبعده لا كنـــــت او تكوني
هذا حسين وارد المنـــــــــــــون وتشربين بـــــــــــــارد المعين
تالله ما هذا فعال دينــــــــــــــي
فاستحق العباس (ع) لذلك ان يكون له مرقد خاص كمرقد أخيه الحسين(ع).
وفي الحقيقة فان أصحاب الحسين (ع) كانوا يستحقون هذا الشرف عن جدارة وامتياز، وهم يـمتلكون مقومات وأسباب هذا القدر الذي جعلهم مع الـحسين (ع) في الدنيا والآخرة..
وقد قال الله تعالى :
( وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَـهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت-69
( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) السجدة-18
( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ، أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة-109
فهذا التسديد الإلهي والتوفيق الرباني لم يطرأ عليهم فجأة وبدون مقدمات، فان الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد أبى الله تعالى إلا ان يُجـري الأمـور بأسبابها، وهو تعالى انـما يُقبل على من يُقبل عليه..
ولم يكن الإمام الحسين (ع) يُجامل أصحابه حينما قال لهم : ( لا أعلم أصحاباً أولى ولا خـيراً من أصحابي).
فهذا برير بن خضير سيد القراء، وهذا حبيب بن مظاهر الأسدي كان من خواص أمير الـمؤمنين (ع)، وكان مسلم بن عوسجة صحابياً جليلاً، ونافع بن هلال كان من الـمجاهدين بين يدي أمير الـمؤمنين (ع)..
ومثلهم الآخـرون رضوان الله تعالى عليهم جميعاً.
حتى الـحر الرياحي لم يكن معروفاً عنه قبل توبته انه من أهل الفسوق والـمعاصي، وكان في الطريق يـحترم الإمام الحسين (ع) ويُجلّه، وقد صلى خلفه، ولم يكن يتـصـور ان الأمر سيكون جدياً إلى الـحد الذي وصل إليه، وعندما أدرك انه صار عندئذ بين الـجنـة والنار، إختـار الـجنـة قائلاً : ( والله لا أختار على الـجنة شيئاً، ولو قُطّعت وحرقت)، وتاب توبة نصوحـاً مقبولة بشهادة الـحسين (ع)، واستشهد بعد ذلك مباشرة..
وكذلك ما قيـل عن زهـير بن القين من انه كان عثمانيـاً، فلعله كان مـحسوباً عليهم ظاهراً، أو كانت هذه التهمة من قِبَل أعدائــه، ولم يرد انه حـارب أمير الـمؤمنين (ع) أو ناصبـه العداء، بل الوارد ان الإمام الحسين (ع) إختاره ودعاه بالـخصوص، وقد قَبل زهير دعوته فوراً.. وكربلاء تشهد له انه من أشد الـمناصرين للحسين (ع) بالقول والفعل حتى استشهد رضوان الله عليه، وعلى سائر أصحاب الحسين (ع) جزاهم الله خير جزاء الـمحسنين.
وعلى اية حال فقد ورد في الرواية ان الحسين (ع) كشف لأصحابه ليلة عاشوراء منازلهم في الجنة وعرفهم مقاماتهم عند الله تعالى، ولذلك كان احد الانصار مستبشراً ضاحكاً في ساحة المعركة، ولما سُئل عن ذلك اجابهم بما مضمونه انه ليس بينه وبين الجنة الا ان يميلوا عليه هؤلاء فيقتلوه.
هكذا كان اصحاب الحسين (ع) اذا اردنا ان نكون مثلهم احراراً كراماً وكيف لا وهم يسمعون إمامهم وقائدهم يقول للظالمين :
(لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا اقر إقرار العبيد)(1).
ويقول ايضاً :
(فاني لا ارى الموت الا سعادة، والحياة مع الظالمين الا برماً).
وكذلك يقول :
( موت في عز، خير من حياة في ذل).
وهو القائل أيضاً :
(ألا وإن الدعـي ابن الدعي قد ركز بين إثنتين، بين السلة والذلـة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والـمؤمنون، وحجور طابت، ونفوس أبـية، من أن نؤثـر طاعـة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر).
ولماذا نخاف من الموت وهو امر لابد منه، وقد قيل ان الشجاع يموت مرة، بينما يموت الجبان الف مرة.
ولذلك نسمع الامام الحسين (ع) يخاطب أصحابه:
(صبراً بني الكرام، فما الموت الا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء الى الجنان الواسعة والنعيم).
وروي عنه (ع) انه كان يقول في ليلة العاشر من مـحرم :
يا دهر اف لك من خليـــــل كم لك بالإشراق والاصيل
وانما الامر الى الجليـــــــــــل وكل حـــــــــي سالك سبيل
فعندما سمعته اخته زينب (ع) تألمت، فاجابها الحسين (ع) :
(يا اختاه تعزي بعزاء الله، واعلمي ان اهل الارض يموتون، واهل السماء لا يبقون، وكل شيء هالك الا وجهه، ولي ولكل مسلم برسول الله اسوة حسنة).
فمحل الشاهد هنا ان الموت امر اعتيادي بالنسبة لكل انسان، وهو يصيب الجامد والمتحرك على حد سواء، فاذا كانت الاهداف السامية والغايات النبيلة واضحة أمام الانسان، وثابتة في قلبه، فالمفروض ان يكون مع الحق مهما كانت المصاعب والنتائج، وكما قال علي الاكبر بما مضمونه ( مادمنا على الحق فلا نبالي وقعنا على الموت ام وقع الموت علينا).
هكذا يجب ان يكون (الحسيني)، فالحسيني الحقيقي ليس بكثرة اللطم والبكاء واقامة المجالس ونحو ذلك، فان هذا وان كان له اجره وثوابه، الا ان الحسيني الحقيقي هو الانسان الذي يدرك بوعي حقيقة الحسين (ع) وحقيقة ثورته وقضيته، فيعمل على اساسها، ويقدم لنفسه ما يؤهله ليكون احد الانصار شأناً، ما دام لم يحظ بذلك الشرف فعلاً.
وهذا المعنى يجب ان نضعه امام اعيننا وقلوبنا حينما نردد دائماً في المجالس الحسينية والمحاضرات : ( يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً)..
حتى لا نكون مثل ذلك الشخص الذي كان يردد هذه العبارة بكثرة من دون تأمل ووعي، حتى رأى في المنام ان واقعة الطف قامت وانه في وسط المعركة، حيث العطش والنيران والدماء، فجاءه جماعة نزعت منهم الرحمة وقالوا له هل انت معنا ام مع الحسين (ع)، فاجابهم فزعاً : بل أنا معكم.
وهكذا فان المفروض بالفرد ان يكون على قدر المسؤولية، حتى لا يكون من المنافقين الذين قال لهم الله تعالى:
[ يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون ] الصف (2-3).
وليحرص كل واحد منا ان يكون على اهبة الاستعداد دائماً، وان يحافظ على ثباته وولائه واخلاصه وثقته بالله تعالى، فنحن كما قلنا في معركة مستمرة ضد الباطل والانحراف...
[ الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ] آل عمران – 173.
ولعل خير شاهد على ما نقول هو ما حدث في كربلاء والكاظمية هذه السنة (1425 هـ) في يوم عاشوراء، فقد تكررت حادثة الطف من جديد، وتعالت مرة اخرى في ارض كربلاء اصوات (لبيك يا حسين).
ورغم ان الاشاعات كانت تؤكد وجود الـخطر وكان احتمال الضرر كبيراً، الا ان ذلك لم يثنِ المؤمنين عن الالتحاق بركب الحسين (ع)، وانطلقت الجماهير الحسينية وهي تردد (حسبنا الله ونعم الوكيل).
وانتصر الشهداء في هذه الواقعة ايضاً..
فالعالم كله وقف اجلالاً واحتراماً لهؤلاء الابطال الذين تحدوا الموت من اجل نصرة الحق، وتثبيت القضية الحسينية التي أصبحت شعاراً للإباء والثبات على المبادىء الإلهية.
وهكذا فان للنصر معنى آخر قد لا يفهمه الكثير من الماديين والدنيويين وأصحاب النفوس المريضة..
فالنصر ليس منوطاً بانتصار الأشخاص عسكرياً، وانما هو منوط بانتصار الاهداف والافكار، وكل جهة تفشل في تحقيق اهدافها فهي جهة خاسرة واقعاً مهما كان انتصارها المادي او العسكري.
وهذا درس آخر من دروس الثورة الحسينية ينبغي ان نتحدث عنه.
[ قل هل تربصون بنا الا احدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بأيدينا، فتربصوا انا معكم متربصون ] التوبة – 52.
__________________
|