كتب لي شابّ آخر وقال لي قد أهلكتني عبارة واحدة من عبارات دعاء الجوشن الكبير في جلسة إحيائنا في ليلة القدر، ما جعلتني أجهش بالبكاء إلى صباح تلك الليلة وهي عبارة «يا ذا العهد والوفاء». قال: شعرت فجأة بهذه الحقيقة وهي أنه ليس لأحد في هذه الدنيا أن يعطيني كلاما ويعاهدني على شيء، إذ ليس بيد أحد شيء ولا يوجد ذو وفاء في هذا العالم. فالشخص الوحيد الذي عهد ويوفي بعهده هو الله سبحانه، إذ شاهدت عهده ووفاءه.
فإذا طالبتم هذا الشابّ أن يشرح لكم هذه العبارة لتدركوا جمالها وحرارتها فلا يمكن. فلا تعالج المشكلة بالشرح، بل نحن بحاجة إلى عملية تشريح في صدورنا وقلوبنا ليتمكن القلب من مشاهدة هذا الجمال.
في سبيل كسب هذا الشعور وتعزيزه الذي يجعل الجمال على رأس حاجات الإنسان ويمكنه من إدراك جمال الله، لابدّ اجتياز بعض المقدمات والمراحل.
1ـ الابتعاد عن القبائح
فعلى سبيل المثال لابدّ للإنسان أن يغضّ عين قلبه عن المشاهد غير الجميلة في العالم. لابدّ أن يكفّ عن إنتاج ما ليس بجميل. كيف يريد الإنسان أن يشعر بجمال الله وهو ينتج غير الجميل بأعماله وصفاته. فإذا كان الإنسان ينتج الأفعال القبيحة وغير الجميلة، عند ذلك تعجز روحه عن إدراك مصاديق الجمال في هذا العالم. فلا يشعر حينئذ بجمال الله. يجب أن يبتعد الإنسان عن الغيبة والكذب وباقي السيئات والقبائح حتى تتمهد روحه لإدراك الجمال.
من مراقبات العطّار أنه لا يشتمّ أية رائحة، حتى يحافظ على شامته وذوقها. ومن هذا المنطلق تجدون الشيخ بهجت(رض) ما كان ينظر إلى كل شخص ولا يكلم كل إنسان، حيث كان يراقب نوافذ قلبه ولا سيما عينه وسمعه. فليس لنا بد من هذه المراقبات.
قال لي أحد الشباب: نحن في أجواء هذه المدينة، فنتلوث بأشكال المشاهد والصور والأحاديث شئنا أم أبينا، فما نفعل؟ قلت له: اقرأ القرآن ليلا، وطهر أوساخ قلبك بجمال آيات القرآن. وهذا أمر لابدّ منه.
وبالتأكيد ليست الأفعال القبيحة هي كلّ ما ينبغي الإنسان أن يجتنبه، فلابدّ من الاجتناب عن الأفكار القبيحة والرغبات القبيحة كالحقد على الآخرين. فلنحاول أن نبعد كل هذه الأمور عن قلبنا. ونفرّغه لإدراك الجمال. فإن الهجرة إلى الله بدافع الجمال لها طعم آخر.
2ـ مصاحبة أهل الجمال
الخطوة الأخرى التي لابدّ أن نخطوها في هذا المسار هو مصاحبة أهل الجمال. إن أئمتنا المعصومين هم «وجه الله»، فلنصاحبهم ونستأنس بهم، فعند ذلك تتغير ذائقتنا ونستأنس حينها بجمالهم.
3ـ الخلوة مع الطبيعة
كما ينبغي أن لا نمرّ مرور الكرام عن جمال الطبيعة. حيث يعتبر الفنانون بأجمعهم أن هذا الجمال الطبيعي هو مصدر إدراك الجمال بشكل عام. فلتكن لكم خلوة مع الطبيعة، مع الليل ونجومه، مع الصحاري والجبال والبحار. فإن الخلوة مع الطبيعة مستحسن جدا.
أنا أعتقد أن ما قاله أمير المؤمنين(ع) أن: «النَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ يُسْر؛ صحفيفة الإمام الرضا(ع)، ص72»، لم يكن بغرض صحة الجسم وحسب. واستبعد أن تكون بعض إرشادات أمير المؤمنين(ع) ذات بعد واحد، ولا يمكن افتراض الحياة ذات بعد واحد. عندما يوصي أمير المؤمنين بهذه التوصية فلابدّ أن يكون في هذا النظر أثر خاص على روح الإنسان.
على كل نحن بحاجة إلى مراقبة عامة في سبيل تطهير القلب من الأوساخ والقبائح لكي نتمكن من إدراك الجمال المعنوي في هذا العالم.
يتبع إن شاء الله...