
المرأة الثانية: امرأة فرعون

وهي آسية بنت مزاحم، من النساء الأخيار، تزوجها فرعون مصر في زمانها، وارتبط قصتها بنبي من أنبياء الله أيضاً، ألا وهو موسى الكليم (ع).
إن هذه المرأة التي يتوفر لها في قصر الحكم كل ما تتمناه الأنفس من بذخ ورفاهية، وخدم وحشم، وسلطة وجاه، ومال وممتلكات، لم تكن عبدة لكل ماديات الحياة الدنيا ومغرياتها، ولا ذليلة عند أعتى السلاطين، بل خفق قلبها بالإيمان، وانتقت بإخلاص باب الصلاح في قصر الظلم والانحراف.
لقد قدمت هذه المرأة دروساً عظيمة في الإيمان والصبر والحنان، حتى استحقت أن تكون قدوة حسنة يضرب بها المثل على لسان الباري جل شأنه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ...} [التحريم:11].
منذ التقت عيناها بالتابوت الذي حمل موسى (ع) وليداً صغيراً، وهي في كل يوم تزاد إيماناً بعد إيمان، لتتبوأ أعلى درجات الحب الإلهي، وتصبح سيدة نساء عالمها أجمعين، لا في قصر الحكم باعتبارها امرأة الفرعون، بل في إيمانها ومواقفها المشرفة مع نبي الله موسى (ع) وصمودها العظيم في وجه الجبروت الفرعوني.
استخدمت تأثيرها على فرعون للحيلولة دون وقوع أي ضرر على موسى (ع)، فخاطبت فرعون منذ البداية: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]. وتعددت المواقف في دفعها الضرر عنه (ع)، ففي "بعض الروايات أنه كان يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب صغير يلعب به إذ ضرب على رأس فرعون، فغضب غضباً شديداً وتطير منه وقال: هذا عدوي. فأرسل إلى الذباحين. فقالت امرأته: إنما هو صبي لا يعقل، وإني أجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق أضع له حلياً من الذهب، وأضع له جمراً، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل. فلما حول جبرئيل يده إلى الجمر قبضها وطرحها في فيه فوضعها على لسانه فأحرقته، فذلك الذي يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} [طه:27]. فكف عن قتله وحببه الله تعالى إليه وإلى الناس كلهم"(4).
آمنت بموسى (ع)، لم يكن يهمها ما عليه زوجها فرعون من كفر وضياع فكري وديني، قررت أن تعبد الله عز وجل ولو سراً، وتتصدق على الفقراء، وتساعد المحتاجين والمساكين.
وعندما اكتشف فرعون أمرها، لم تنهزم، ولم تنكسر، ولم تتأخر في مواجهة فرعون أعتى الطغاة وهي امرأة لا حيلة لها إلا الله جل جلاله؛ واجهته بالصبر والصمود، الذي لا يخص الرجال وحدهم فحسب، بل إن امرأة كآسية هذه إذا وُضِعت في كفة ترجح على كفة يوضع فيها ملايين الرجال من الذين لا يمتلكون الإرادة والصبر والصمود.
واجهت الموت في سبيل الجنة.. ذهبت عن هذه الدنيا شهيدة على يد الطاغوت، لكنها انتصرت بدمها وخلدت مع الخالدين في أعلى عليين.. نعم، نهاية حياتها كانت محزنة من حيث التعذيب والتنكيل حتى استشهدت، كانت نجاتها في التراجع عن إيمانها، لكنها أبت إلا تكون مضرب المثل في الإيمان.
يحكي لنا رسول الله محمد (ص) تلك النهاية للبطلة العظيمة آسية بنت مزاحم، فيقول: "وأما امرأة فرعون آسية، فكانت من بني إسرائيل وكانت مؤمنة مخلصة، وكانت تعبد الله سراً، وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذ الملائكة يعرجون بروحها لما أراد الله تعالى بها من الخير فزادت يقيناً وإخلاصاً وتصديقاً، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها فرعون يخبرها بما صنع بها، فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا؟ فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك. فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله تعالى ربي وربك ورب العالمين. فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى فخلت بها أمها، فسألتها موافقة فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله فلا والله لا أفعل ذلك أبداً، فأمر بها فرعون حتى مدت بين أربعة أوتاد ثم لا زالت تعذب حتى ماتت"(5).
لقد التجأت إلى الله عز وجل لتعلمنا أهمية الدعاء، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. يقول المحقق الأردبيلي بعد ذكر هذه الآية: "رفعها الله في الجنة فهي فيها تأكل وتشرب، وقيل إنها أبصرت بيتها في الجنة في درة. {ونجني من فرعون} وعذابه، قيل كان أمر بأن يلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون، وقيل إنها كانت تربط وتستقبل بالشمس وإذا انصرفوا عنها أطلقها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنة"(6).
اختلفت الروايات في كيفية اغتيال جسدها الطاهر، لكنها أجمعت على عظم تعذيبها ومدى شجاعتها وصمودها، حتى كانت قدوة في الصبر على أذى الزوج، فورد عن النبي محمد (ص): "من صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب (ع) على بلائه، ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثل ثواب آسية بنت مزاحم"(7).
إنها امرأة كاملة وقدوة رائعة، استحقت الثناء على لسان الأنبياء والأوصياء، وفي حقها قال رسول الله (ص): "ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب (ع)، وآسية امرأة فرعون"(8). وورد عن "ابن عباس قال: خط رسول الله (ص) أربع خطط في الأرض، وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله (ص): أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"(9).

يتبع