بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره ذيل الآية الشريفة : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ)[15] جواب عن رمي المشركين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بأ نّه شاعر ، نبّه عليه بعد الجواب عن قولهم إنّ له شيطاناً يوحي إليه القرآن . وهذان أعني قولهم : إنّ من الجنّ من يأتيه ، وقولهم : إنّه لشاعر ، ممّا كانوا يكرّرونه في ألسنتهم بمكّة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقّة ، وهذا ممّا يؤيّد نزول هذه الآيات بمكّة خلافاً لما قيل إنّها نزلت بالمدينة ...
وكيف كان فالغيّ خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع ، فالرشيد هو الذي لا يهتمّ إلاّ بما هو حقّ واقع ، والغويّ هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الجنّة ، والغواية ممّا يختصّ به صناعة الشعر المبنيّة على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ، ولذلك لا يهتمّ به إلاّ الغوي المشغوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحقّ الصارفة عن الرشد ، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغيّ والغواية إلاّ الغاوون وذلك قوله تعالى : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ) .
وقال فخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية الشريفة : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ..
اعلم أنّ الكفّار لمّا قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنّ الشياطين تنزل بالقرآن على محمّد (صلى الله عليه وآله) كما أ نّهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ؟ ثمّ إنّه سبحانه فرّق بين محمّد (صلى الله عليه وآله) وبين الكهنة ، فذكر ها هنا ما يدلّ على الفرق بينه (عليه السلام) وبين الشعراء ، وذلك هو أنّ الشعراء يتبعهم الغاوون ، أي الضالّون ثمّ بيّن تلك الغواية بأمرين :
الأوّل : (أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ) والمراد منه الطرق المختلفة كقولك : أنا في واد وأنت في واد ، وذلك لأ نّهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه وبالعكس ، وقد يعظّمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، وذلك يدلّ على أ نّهم لا يطلبون بشعرهم الحقّ ولا الصدق بخلاف أمر محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فإنّه من أوّل أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة ، والإعراض عن الدنيا .
الثاني : (أنَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) وذلك أيضاً من علامات الغواة ، فإنّهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصرّون عليه ، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ، ثمّ إنّهم لا يرتكبون إلاّ الفواحش ، وذلك يدلّ على الغواية والضلالة . وأمّا محمّد (صلى الله عليه وآله) فإنّه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له :(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ)[28] ، ثمّ بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ)[28](وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)[29] ، وكلّ ذلك على خلاف طريقة الشعراء ، فقد ظهر بهذا الذي بيّنّاه أنّ حال محمّد (صلى الله عليه وآله) ما كان يشبه حال الشعراء ، ثمّ إنّ الله تعالى لمّا وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين باُمور أربعة :
أحدهما: الإيمان ، وهو قوله : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ)[15][28] (إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
وثانيهما: العمل الصالح ، وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [28].
وثالثهما: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوّة ودعوة الخلق إلى الحقّ ، وهو قوله :(وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً)[28] .
و رابعها: أن لا يذكر ويهجو أحد إلاّ على سبيل الانتصار ممّن يهجوهم ، وهو قوله :(وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)[28] ، قال الله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ)[30] ، ثمّ إنّ الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[31] ...
أقول.. وزبدة المخاض أنّ الشعر في القرآن الكريم على نحوين : إمّا أن يكون حقّاً مطابقاً للواقع ، ويقصد به ما هو الواقع ، وإمّا أن يكون باطلا وكذباً يبتني على الأوهام والخيالات والأهواء ، وبهذا يلزم تصنيف الشعراء إلى صنفين : شعراء الحقّ وهم المؤمنون وينصبّ شعرهم في التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد والمواعظ والإرشاد ، فيكون الشاعر رسالياً وشعره حقّاً وعمله صالحاً ، وإنّ شعره يكون كالسيف في رقاب أعداء الله عزّ وجلّ ، وكالنبل والرماح في صدور الطغاة والجائرين وأهل البدع والباطل والانحراف والضلال . والصنف الآخر شعراء الباطل الذين يهيمون في كلّ واد ويقولون ما لا يفعلون ، يتبعون أهوائهم وشهواتهم الحيوانية ، فهم إخوان الشياطين ومن أهل الغواية ويتبعون الغاوون .
لمحات قراءة في الشعر والشعراء على ضوء القرآن والعترة (ع)
اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ
منقول