مجنون من زار الأمام الحسين ( ع )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
تظل الأحداث وليدة يومها وما إن تمضي السنين حتى تصبح من تراث الماضي البعيد ، فمن النادر أن تجد قضية تاريخية تتشبث جذورها في أعماق تاريخ الإنسانية كما صنعته حادثة كربلاء الخالدة ، إنها القضية التي ظلت وليدة ذكراها المتجددة في نفوس ملايين من البشر على مر العصور ، فكلما تقدم الزمن زادت تجدداً وزهواً بشكل قد تعجز عقول المفكرين عن فهم سر بقائها وفلسفتها .
ولم يكن اسم الإمام الحسين عليه السلام مجرد حفيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن دمه الطاهر الذي سكب على أرضها مثله مثل أي دم أريق على سطح الأرض ، بل أصبح أغلى دم سفك في تاريخها فغذى ترابها وظل الرافد المعين لكل قيمة ومبدأ يبحث عنه كل إنسان يريد معرفة قيمة وجوده في هذا الكون .
وما إن تتجدد ذكرى عاشوراء وحديث البكاء والزيارة إلا وتبدأ كلمات جيل المثقفين والمتنورين تتراشق بفلسفة الموضوعية والعقلانية لكي يوضحوا معاني الفداء في منظار فلسفتهم بأن الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن قيم ومبادئ ، وإن تضحيته جاءت لهذه المعاني وليس لفلسفة البكاء والحزن والعزاء !! .
فكان بودي أن أسأل هذا الفيلسوف وذاك المتنور وذاك المعتدل : إذا كان الإمام الحسين عليه السلام ضحى لأجل قيمة وتضحية وفداء ، فكيف يمكنك أن تختزل كل ذلك وتوصلها إلى ملايين البشر البسطاء في نظرك ؟ هل بكلماتك المنمقة ، أم بسحر عباراتك المعسولة؟ أم برأيك الحكيم !! ، إذاً مافائدة أربع وثلاثين سنة يبكيها سيد العباد عليه السلام على أبيه ؟ هل هو قاصر عن قراءة الأفكار والأحداث ؟لذلك اختار سلاح البكاء فكان سلاح الجبناء وليس سلاح الأقوياء !! ،ألا تدرك أن هذا العابد هو فيلسوف العقلاء والعارفين ؟ ألا تعلم أن البكاء سلاح الأنبياء والمصلحين؟هل قرأت شيئاً يسيراً عن فلسفة البكاء في فكر المتحضرين ومايصنعه في ذوات البشر ، أم إنه في تصنيفك من الميتافيزيقيات التي تأخذ بالإنسان للتعلق بماوراء الطبيعة ؟ ألا تعتقد أنك بواسطة فلسفة البكاء يمكن أن توصل كل معنى تريده للبشر وتغرس كل قيمة نبيلة في قلوب الملايين منهم ؟ ألا تظن بفلسفة البكاء وجِدت كرامة الإنسان ؟ ألا ترى سواعد شبان بسطاء في نظرك هزمت الجيش الذي لايقهر بسلاح مخفي وراء بنادقهم وهم يرددون : ياأبا عبدالله ، فأين سر وخفايا كل هذا في فكرك و قواميس فلسفتك ؟.
فلماذا بقي شعار الإمام الحسين عليه السلام حتى يومنا هذا ؟شعار ردده ولازال يتردد : هيهات منا الذلة ، فهل تدرك معناه؟ إنها فلسفة تغيير واقع الإنسان بكل أبعادها، فالإمام الحسين عليه السلام رددها في بيداء كربلاء ودوت في مسامع التاريخ لكي نسمعها ونعيها في وجداننا بأنه صاحب نهضة فردية جاءت لتغير واقع البشر ، وكأنه يقول لعامة البشر مسلميهم ومسيحيهم وثنيهم ويهودهم : من أراد حياة الإنسان كإنسان فليأخذ بمنهجي ، فالإمام الحسين عليه السلام ليس مجرد شعار يردد على الألسن ، إنما كيان وصورة تختزل فيها كل المعاني والفلسفة التي ترد في عقولنا وتسعى لتغير واقعنا.
لذلك ما أخذ أحد بمبدئه إلا نال مراده وغايته ، فصاحب الإزار الأبيض استطاع أن يحرر شبه قارة يقطنها على ما يربو على المليار إنسان ، لأنه تعلم من الإمام الحسين عليه السلام كيف يكون مظلوماً فينتصر ، فالإمام الحسين عليه السلام صنع بأمثال هؤلاء مالم يصنعه فلاسفة العصور ومفكري الدهور ، فهكذا تكون الفلسفة وتكون الدراية والإدراك .
يجب أن ندرك أن الإمام الحسين عليه السلام مجموعة أسرار اختزلها الله في كيان بشري تجسدت في شخصه ، وشاءت إرادة الله أن يكون بوابة لرحمته ومصباحاً ينير دروب المتحيرين في كل زمان ومكان ، لذلك كان الإمام الحسين عليه السلام صاحب المشروع النهضوي المتكامل الذي سعى من خلاله توجيه البشر لخالقهم وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم ، فكنت أتمنى من هذا المثقف أن يدلنا على طريق ونظير للحسين عليه السلام صنع ماصنعه الإمام الحسين عليه السلام لكي نتوجه إليه بدلاً عنه .
وما إن تأتي ذكرى زيارة الأربعين حتى تتلاقفنا أقلام الزيف وألسنة المبغضين بأننا عباد أوثان وقبور ، وعباد حجر وطين ، لكنها القلوب الصماء التي لاتستنير بنور الإيمان ولا بفهم قيمة الإنسان .
ألا يسأل أحدهم نفسه سؤال هو أبسط مايكون من العقلانية والمنطق ، أيعقل أن كل أولئك يعبدون الإمام الحسين عليه السلام وهم يزورونه وينادونه بالعابد القائم للصلاة والمؤدي للزكاة ؟ أين العقل الذي جعلك تفهم أني مشرك بالله وأنا أعبده ؟!! .
عجباً لعقول لاتدرك أبسط الأمور ، فإذا كان الإمام الحسين عليه السلام في نظرك سيد شباب أهل الجنة ، فمن أين أخذ هذه المنزلة ليكون سيد الجنان ؟ هل لقرابته من جده أم بتضحيته الفريدة بكل معنى لها في سبيل الله ؟ .
إذ كنت صاحب تفكير وفلسفة فلما تجلس هنيئة مع نفسك لتجري فلسفتك على طوفان من البشر يقفون أمام طود القيم والمبادئ ، لترى وتدرك بعين البصيرة معنى الحقيقة التي ضحى من أجلها الإمام الحسين عليه السلام، فربما ترى الماشي لزيارته بسيط في تفكيره ، وقد لايفقه من فلسفتك وعباراتك شيئاً ، لكنه بالمقابل صاحب بصيرة يمشي بقلب يدرك مالا تدركه عيون مفتوحة لاترى إلا كلماتها وآرائها ، فعمى القلب لايقارن بعمى العين ،﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾الحج46 .
إنك تعجب من عقل مستنير يدعي الثقافة والتنوير أمام طوفان من البشر يقال عنهم بسطاء الفكر والعقل ، وكأن ليس بينهم العالم و المتحضر والمتعلم ، وهو الفيلسوف المتفهم الذي يعقل بينهم !! ، عجباً لمفارقة تجدها بين دفتين ، بل كل العجب أن تقيس فلسفة أمة وسبيل حياة بعقل إنسان يدعي الثقافة والبصيرة أمام سونامي من البشر .
وهذا ماجعل بعضهم يقول : إن الشيعة يتركون حج البيت ويزورون الإمام الحسين عليه السلام!! ، وهي قراءة مغلوطة لا تجدي الرد عليها ضمن أدلة وبراهين قيلت مراراً وتكراراً ، لكن يبقىسؤال يُطرح أمام كل مسلم: أنت تنادي بأن قيم الدين وشعائر الله لابد أن تبق لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسس وسعى من أجلها، فهل تعرف أن الإمام الحسين عليه السلام هو من ثبتها بدمه الطاهر وصنع مالم يصنعه أحد ؟ فالصلاة ثُبتت قيمتها عندما وقف يصلي أمام جيش الظلمة ليقول لهم : أنا من يثبت العبودية لله أمام طغيانكم وظلمكم بقوله : وهل نقاتلهم إلا على الصلاة ؟ وكذلك الحج والصوم وغيرها بقيت لأنه سعى لإبقائها كشعائر من شعائر الله ، فهو الإنسان الذي ضحى بنفسه لكي تبقى عبودية الله وشعائر دينه ، فلا عجب أن يقال إن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ، وهو مصداق لقول النبي محمد عليه السلام : حسين مني وأنا من حسين .
والأعجب من كله هذا ، كيف أن الإمام الحسين عليه السلام ثبت قيمة الإنسان بحقوقه وواجباته كبشر ؟ فيسقي الماء بيده قاتليه ، والعجب العجاب كيف وقف يبكي على سافك دمه ؟ فسن بإنسانيته وبكاءه قانون الإنسانية الفريد من نوعه، فبربك هل وجدت قانوناً مثله بين صفحات قوانين جمعيات حقوق الإنسان في عالمنا المتحضر ؟ !!.
وصنعت أخته الحوراء اكبر بصمة في تاريخ النساء عندما قامت بدور المرأة الصامدة العاملة المجاهدة بإعلامها وكلمتها ودمعتها تتحدى كل طاغوت متمرد لايعرف حرمة لدين ولا كرامة لإنسان .
فالإمام الحسين عليه السلام بذل مهجته وأبناءه وأهله وأصحابه وكل شيء بين يديه من أجل دين الله وإقامة تشريعاته ، كل ذلك من أجل حفظ كرامة الإنسان أينما وجدت ، فماذا تنتظر من خالق الأكوان أن يجزيه في هذه الدنيا ، أليس أقل القليل في حقه أن يقذف حبه وعشقه في قلوب المؤمنين يعبرون فيها عن صدق مواساتهم وبكائهم وحزنهم عليه ؟ ثم تأتي وتستكثر على الإمام الحسين عليه السلام أن يقف ملايين من البشر على قبره ليدركوا أن كل قيمة في دينهم ومعتقداتهم بقيت بفضل تضحيته وفدائه ؟ .
أي جنون أصاب هؤلاء البشر ، أيمشون لتراب وأحجار ؟ !! أي جنون هذا الذي كلما قُتل منهم جماعة بغدر البغض والإرهاب زادت جموعهم ، إلا تعتقد أن من يضحي بنفسه فلا بد أن المضحى من أجله أغلى قيمة من وجوده ، إذاً : لماذا لاتقف وتفسر بفلسفتك كل هذه المعاني ؟ !! .
أنه حسب علمي علم المجانين الذي قل من يفقهه ، وقد لايشرفك أن تكون أحد المنتسبين إليه ، لأن فلسفتك ومعاني التعقل لديك أدرك من هؤلاء المجانين ، لكنه فنون الجنون الذي يصنع طوفان من البشر تهتف باسم الحسين عليه السلام .
أتعجب من مدرسة المجانين روادها أصحاب الحسين عليه السلام الذين قدموا أنفسهم في سبيل الله كأمثال عابس الشاكري عندما ألقى درعه و مغفره فقيل له : أجننت يا عابس ؟ فقال : حب الحسين عليه السلام اجنني !! .
فكم تمنيت أن أصاب بهذا الجنون الذي أُصيب به الملايين ليقول لي أحدهم أنك مجنون مثلهم تضحي بنفسك لكي تزور الإمام الحسين عليه السلام ، فأقول : بالفعل جنون ولكنه العقل بعينه .
فأي جنون صنعه الإمام الحسين عليه السلام بسلالة البشر من ذلك الزمان حتى يومنا هذا ، لقد صنع الإمام الحسين عليه السلام في فلسفته ودرايته جنوناً لا يدرك مداه ، تقرأه على صفحات القلوب والعقول لا على طاولات المدارس والجامعات ، جنون أقله يحفظ كرامة وحرية الإنسان ويثبت المبادئ السامية والأخلاق الملائكية ، فكان بحق جنوناً يتمنى أن يصاب به كل بشر عرف معنى الإنسانية والعبودية لخالقه .
نسألكم الدعاء
__________________
كون حسين محبوبك ... أبشر طاحت أذنوبك لو غـطـاك الــــتراب ... يوكفلك بالحســاب وبيده يمضي مكتوبك
|