ثم لم تلبثوا الا ريث أن تسكن نفرتها [ نفرت الدابة جزعت وتباعدت ] ويسلس
[ أي يسهل ] قيادها ، ثم اخذتم تورون وقدتها [ أي لهبها ] وتهيجون جمرتها
، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، واطفاء انوار الدين الجلي ، واهمال سنن
النبي الصفي ، تشربون حسوا [ الحسو : هو الشرب شيئا فشيئا ] في ارتغاء [
الارتغاء : هو شرب الرغوة وهي اللبن المشوب بالماء وحسوا في ارتغاء : مثل
يضرب لمن يظهر ويريد غيره ] وتمشون لاهله وولده في الخَمرة [ الخمر :
ماواراك من شجر وغيره ] والضَراء [ أي الشجر الملتف بالوادي ] ويصير منكم
على مثل حز [ أي القطع ] المدى ، ووخز السنان في الحشاء ، وانتم الان
تزعمون : أن لا إرث لنا ، افحكم الجاهلية تبغون ومن احسن من الله حكما
لقوم يوقنون ؟ ! أفلا تعلمون ؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية : أني
ابنته .
ايها المسلمون أغلب على ارثي ؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا
ارث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء
ظهوركم ؟ اذ يقول : ( وورث سليمان داود ) [ النمل : 16 ] وقال فيما اقتص
من خبر يحيى بن زكريا اذ قال : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل
يعقوب ) [ مريم : 6 ] وقال : ( واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب
الله ) [ الانفال : 75 ] وقال : ( يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ
الانثيين ) [ النساء : 11 ] وقال : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين
والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) [ البقرة :180 ] وزعمتم : ان لا
حظوة [ أي المكانة ] لي ولا ارث من أبي ، ولا رحم بيننا ، افخصكم الله
بآية اخرج أبي منها ؟ ام هل تقولون : أن اهل ملتين لا يتوارثان ؟ أو لست
انا وأبي من اهل ملة واحدة ؟ أم انتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي ؟
فدونكها مخطومة [ من الخِطام وهو : كل مايدخل في انف البعير ليقاد به ]
مرحولة [ الرَحل : هو للناقة كالسراج للفرس ] تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم
والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم
اذ تندمون ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه
عذاب مقيم.
ثم رمت بطرفها نحو الانصار فقالت : يامعشر النقيبة [ أي الفتية ] واعضاد
الملة وحضنة الاسلام ، ماهذه الغَميزَة [ أي ضعفة في العمل ] في حقي
والسِنة [ النوم الخفيف ] عن ظلامتي ؟ أما كان رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) أبي يقول : ( المرء يحفظ في ولده ) ؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا
إهالة [ أي الدسم ] ولكم طاقة بما احاول ، وقوة على ما اطلب وأزاول ،
أتقولون مات محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فخطب جليل ، استوسع وهنه [
وهنة الوهن : الخرق ] واستنهر [ أي اتسع ] فتقه وانفتق رتقه ، واظلمت
الارض لغيبته ، وكسف الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، واكدت [ أي
قل خيرها ] الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند
مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ،
ولا بائقة [ أي داهية ] عاجلة ، اعلن بها كتاب الله جل ثناؤه ، في افنيتكم
، وفي ممساكم ، ومصبحكم ، يهتف في افنيتكم هنافا ، وصراخا ، وتلاوة ،
والحانا ، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم : ( وما
محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران
: 144 ] .
ايها بني قيلة [ قبيلتا الانصار : الاوس والخزرج ] أهضم تراث أبي ؟ وانتم
بمرئ مني ومسمع ، ومنتدى [ أي المجلس ] ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم
الخبرة ، وانتم ذوو العد والعدة ، والاداة والقوة ، وعندكم السلاح والجُنة
[ ما استترت به من السلاح ] توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة
فلا تغيثون ، وانتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة
التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا اهل البيت ، قاتلتم العرب ،
وتحملتم الكد والتعب ، وناطحتم الامم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح [ أي لا
نزال ] او تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام ، ودر
حلب الايام ، وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الافك ، وخمدت نيران الكفر ،
وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق [ أي اجتمع ] نظام الدين ، فأنى حزتم بعد
البيان ؟ واسررتم بعد الاعلان ؟ ونكصتم بعد الاقدام ؟ واشركتم بعد الايمان
؟ بؤسا لقوم نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم ، وهموا باخراج الرسول ، وهم
بدؤكم اول مرة ، اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين .
ألا وقد أرى أن قد اخلدتم [ أي ملتم ] إلى الخفض [ أي السعة والخصب واللين
] وابعدتم من هو احق بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة [ الدعة : الراحة
والسكون ] ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ماوعيتم ، ودسغتم [ الدسغ :
الفيء ] الذي تسوغتم [ تسوغ الشراب شربه بسهولة ] فان تكفروا انتم ومن في
الارض جميعا ، فان الله لغني حميد .
|