خطبة الزهراء ( عليها السلام ) لمّا منعت من فدك
روى العلامة الطبرسي في كتابه الاحتجاج بسنده عن عبد الله بن الحسن [ هو
عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن طالب ( عليه السلام )
] باسناده عن آبائه ( عليهم السلام ) : انه لما أجمع [ أي أحكم النية
والعزيمة ] أبو بكر وعمر على منع فاطمة ( عليها السلام ) فدكا وبلغها ذلك
لاثت [ أي لفته ] خمارها [ الخِمار : المقنعة ، سميت بذلك لان الرأس يخمر
بها أي يغطى ] على رأسها ، واشتملت [ الاشتمال الشيء جعله شاملا ومحيطا
لنفسه ] بجلبابها [ الجلباب : الرداء والازار ] واقبلت في لمة [ أي جماعة
وفي بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي في جماعة قليلة ] من حفدتها [
الحَفَدَة : الاعوان والخدم ] ونساء قومها تطأ ذيولها [ أي ان اثوابها
كانت طويلة تستر قدميها فكانت تطأها عند المشي ] ما تخرم مشيتها مشية رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) [ الخُرم : البرك ، النقص ، والعدول ] حتى
دخلت على أبي بكر وهو في حشد [ أي جماعة ] من المهاجرين والانصار وغيرهم ،
فنيطت [ أي علقت ] دونها ملاءة [ الملاءة الازار ] فجلست ثم أنت انة
اجهش [ اجهش القوم : تهيئوا ] القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس ، ثم
امهلت هنيئة حتى اذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد
الله والثناء عليه والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلما
امسكوا عادت في كلامها ، فقالت ( عليها السلام ) :
الحمد لله على ما انعم ، وله الشكر على ما الهم ، والثناء بما قدم ، من
عموم نعم ابتداها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن اولاها ، جم عن الاحصاء
عددها ، ونأى عن الجزاء امدها ، وتفاوت عن الادراك ابدها ، وندبهم
لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، واستحمد إلى الخلائق باجزالها ، وثنى بالندب
إلى امثالها ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل
الاخلاص بأولها ، وضمن القلوب موصلها ، وأنار في التفكر معقولها ، الممتنع
من الابصار رؤيته ، ومن الالسن صفته ، ومن الاوهام كيفيته ، ابتدع الاشياء
لا من شيء كان قبلها ، وانشأها بلا احتذاء امثلة امتثلها كونها بقدرته ،
وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ،
الا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، واظهارا لقدرته ، تعبدا لبريته ،
اعزازا لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ،
زيادة لعباده من نقمته ، وحياشة [ حاش الابل : جمعها وساقها ] لهم إلى
جنته ، واشهد ان أبي محمدا عبده ورسوله ، اختاره قبل ان ارسله ، وسماه قبل
ان اجتباه ، واصطفاه قبل ان ابتعثه ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر
الاهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بما يلي
الامور ، واحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بموقع الامور ، ابتعثه الله
اتماما لامره ، وعزيمة على امضاء حكمه ، وانفاذا لمقادير حتمه ، فرأى
الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله
مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، وكشف
عن القلوب بهمها [ أي مبهماتها وهي المشكلات من الامور ] وجلى عن الابصار
غممها [ الغمم : جمع غمة وهي : المبهم الملتبس وفي بعض النسخ ( عماها ) ]
وقام في الناس بالهداية ، فانقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ،
وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثم قبضه الله اليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وايثار ، فمحمد ( صلى الله
عليه وآله ) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حف بالملائكة الابرار ، ورضوان
الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، صلى الله على أبي نبيه ، وأمينه ،
وخيرته من الخلق وصفيه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت : انتم عباد الله بصب امره ونهيه ، وحملة
دينه ووحيه ، وامناء الله على انفسكم ، وبلغائه إلى الامم ، زعيم حق له
فيكم ، وعهد قدمه اليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ،
والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بينة بصائره ، منكشفة
سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبطة به اشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ،
مؤد النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسرة ،
ومحارمه المحذرة ، وبيناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة
، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .
فجعل الله الايمان : تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة : تنزيها لكم عن الكبر
، والزكاة : تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيام : تثبيتا للاخلاص ،
والحج : تشييدا للدين ، والعدل : تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا : نظاما للملة ،
وامامتنا : امانا للفرقة ، والجهاد : عزا للاسلام ، والصبر : معونة على
استيجاب الاجر ، والامر بالمعروف : مصلحة للعامة ، وبر الوالدين : وقاية
من السخط ، وصلة الارحام : منساه [ أي مؤخرة ] في العمر ومنماة للعدد ،
والقصاص : حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر : تعريضا للمغفرة ، وتوفية
المكائيل والموازين : تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر : تنزيها عن
الرجس ، واجتناب القذف : حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة : ايجابا بالعفة ،
وحرم الله الشرك : اخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ، ولا
تموتن الا وأنتم مسلمون ، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فانه
انما يخشى الله من عباده العلماء .
ثم قالت : ايها الناس اعلموا ، اني فاطمة وأبي محمد ( صلى الله عليه وآله
) اقول عودا وبدوا ، ولا اقول ما اقول غلظا ، ولا افعل ما افعل شططا [
الشَطَط : هو البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شيء ] لقد جاؤكم رسول من
انفسكم عزيز عليه ما عنتم [ عنتم : انكرتم وجحدتم ] حريص عليكم بالمؤمنين
روؤف رحيم .
فان تعزوه وتعرفوه : تجدوه أبي دون نسائكم ، واخا ابن عمي دون رجالكم ،
ولنعم المعزى اليه ( صلى الله عليه وآله ) ، فبلّغ الرسالة ، صادعا [
الصدع هو الاظهار ] بالنِذارة [ الانذار : وهو الاعلام على وجه التخويف ]
مائلا عن مدرجة [ هي المذهب والمسلك ] المشركين ، ضاربا ثبجهم [ الثَبَج :
وسط الشيء ومعظمه ] آخذا باكظامهم [ الكَظَم : مخرج النفس من الحلق ]
داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجف الاصنام [ في بعض النسخ
( يكسر الاصنام ) وفي بعضها ( يجذ ) أي يكسر ] وينكث الهام ، حتى انهزم
الجمع وولوا الدبر ، حتى تفرى الليل عن صبحه [ أي انشق حتى ظهر وجه الصباح
] واسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين [ الشقاشق
: جمع شِقشقة وهي : شيء كالربة يخرجها البعير من فيه اذا هاج ] وطاح [ أي
هلك ] وشظ [ الوشيظ : السفلة والرذل من الناس ] النفاق ، وانحلت عقد الكفر
والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص [ أي كلمة التوحيد ] في نفر من البيض
الخماص [ المراد بهم اهل البيت عليهم السلام ] وكنتم على شفا حفرة من
النار ، مذقة الشارب [ أي شربته ] ونُهزة [ أي الفرصة ] الطامع ، وقبسة
العجلان [ مثل في الاستعجال ] وموطئ الاقدام [ مثل مشهور في المغلوبية
والمذلة ] تشربون الطَرق [ ماء السماء الذي تبول به الابل وتبعر ]
وتقتاتون القِدّ [ سير بقد من جلد غير مدبوغ ] اذلة خاسئين ، تخافون أن
يتخطفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ( صلى الله
عليه وآله ) ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال [ أي شجعانهم ]
وذؤبان العرب ، ومردة اهل الكتاب ، كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها الله ،
ان نجم [ أي ظهر ] قرى الشيطان [ أي امته وتابعوه ] او فغرت فاغرة من
المشركين [ أي الطائفة منهم ] قذف أخاه في لهَوَاتها [ اللهوات وهي اللحمة
في اقصى شفة الفم ] فلا ينكفيء [ أي يرجع ] حتى يطأ جناحها باخمصه [
الاخمص مالا يصيب الارض من باطن القدم ] ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في
ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء
الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وانتم
في رفاهية من العيش ، وادعون [ أي ساكنون ] فاكهون [ أي ناعمون ] آمنون ،
تتربصون بنا الدوائر [ أي صروف الزمان أي كنتم تنظرون نزول البلايا علينا
] وتتوكفون الاخبار [ أي تتوقعون اخبار المصائب والفتن النازلة بنا ]
وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال ، فلما اختار الله لنبيه دار
أنبيائه ، ومأوى اصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق [ في بعض النسخ ( حسكية )
وحسكة النفاق عداوته ] وسمل [ أي صار خلقا ] جلباب الدين [ الجلباب الازار
] ونطق الغاوين ، ونبغ خامل [ أي من خفى ذكره وكان ساقطا لانباهة له ]
الاقلين ، وهدر [ الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ] فنيق [ الفحل
المكرم من الابل الذي لا يركب ولا يهان ] المبطلين ، فخطر [ خطر البعير
بذنبه اذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه ] في عرصاتكم ، واطلع الشيطان
رأسه من مغرزه [ أي مايخفى فيه تشبيها له بالقنفذ فانه يطلع رأسه بعد زوال
الخوف ] هاتفا بكم [ أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه ] فألفاكم
لدعوته مستجيبين ، وللعزة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ،
واحشمكم فألفا غضابا فوسمتم [ الوسم اثر الكي ] غير ابلكم ووردتم [ الورود
: حضور الماء للشرب ] غير مشربكم ، هذا والعهد قريب والكُلم [ أي الجرح ]
رُحيب [ أي السعة ] والجرح لما يندمل [ أي لم يصلح بعد ] والرسول لما يقبر
، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ، وان جهنم لمحيطة
بالكافرين ، فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وانى تؤفكون ، وكتاب الله بين
اظهركم ، اموره ظاهرة ، واحكامه زاهرة ، واعلامه باهرة ، وزواجره لايحة ،
وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ ام بغيره
تحكمون ؟ بئس للظالمين بدلا ، ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو
في الاخرة من الخاسرين .
|