(6) بحار الأنوار: 21/71/34. وما اكثر ما جاء عنه من الردع عن إذاعة سرّهم والإفشاء لحديثهم وأن المذيع له قاتلهم عمداً لا خطأً، فهذه الأحاديث وغيرها تكشف لك سرّ أمرهم بالتقيّة، فكأَنَّهم يعلمون بأن الناس سوف تستهدف الشيعة على التقيّة فأبانوا الوجه في إلزامهم بها واستمرارهم عليها.
أثر التقيّة في خدمة الدين:
وأمّا أثر التقيّة في خدمة الدين والمجتمع الشيعي فلا يكاد يجهل، فإن الكوفة أيام زياد ضعف فيها التشيّع حتّى لم يبق بها من الشيعة معروف وبلغ الحال بها أيام الحجّاج إِلى أن ينسب الرجل إِلى الكفر والزندقة أحبّ اليه من أن ينسب إِلى التشيّع، ولكن لم تمض برهة على تشديدهم على الشيعة في اعتزال الناس والسياسة واختفائهم وراء حجب التقيّة حتّى بلغ رواة الصادق عليه السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أحصاهم ابن عقدة، والشيخ الطوسي طاب ثراه في كتاب الرجال، والطبرسي في أعلام الورى، والمحقّق الحلّي في المعتبر، وكان اكثرهم من أهل الكوفة،
وكان الحسن بن علي الوشا(1)يقول:
لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول:
حدّثني جعفر بن محمّد عليهما السّلام، على أن الوشا لم يدرك من تلك الطبقة إِلا قليلاً.
فهناك تعرف السرّ لماذا كثرت الرواية عنه عليه السّلام ؟
ولماذا صار منهل العلوم والمعارف ومصدر الأحكام والحكم ؟ ولماذا صار مذهباً لأهل التشيّع ؟
(1) البجلي الكوفي من وجوه الطائفة ومن أصحاب الرضا عليه السلام وثقات رواته، وله كتب، وله مسائل الرضا عليه السلام، ترجم له الرجاليّون كلّهم.
ولماذا روى عنه حتّى أئمة القوم وأعلامهم، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب السختياني وشعبة وابن جريح وغيرهم ؟
، كلّ ذلك لما كان عليه من البُعد عن مجتمع الناس الذي يجلب التهمة اليه بطلب الرياسة والخلافة، ولتستّره في نشر العلم والأخلاق،
ولولا ذلك لما ظهرت علومه وفضائله،
ولولا ذلك لما عرف الناس شأن أهل البيت وحقيقة القرآن وعلوم الدين،
ولولا ذلك لما وضح ما كان عليه أرباب السلطتين،
ولولا ذلك لما بادت كثير من الفِرق الباطلة، وقامت الحجّة عليها من ذوي الفقه والكلام،
ولولا ذلك لما بلغت الشيعة سبعين مليوناً، وحلّت في كلّ صقع واحتلّت كثيراً من البلاد.
فمن ههنا تعرف أثر التقيّة في خدمة الدين والشريعة، وردّ عوادي الظلم والضلالة، وتعريف الناس حقائق الايمان، وبطلان الشبهات والمبتدعات.
فلا أخالك بعد هذا البيان تصغي إِلى شيء من الغمز في التقيّة ونسبة الشيعة إِلى الباطنيّة من جرّاء ذلك التكتّم في الاعتقاد، والتستّر في المذاهب.
وما كان هذا الإسهاب إِلا لرفع النقاب عن محيا الحقيقة لمن يزعم أن التقيّة مجهولة المحاسن، لأنها حجاب كثيف وعسى أن يكون ما وراء الحجاب ألف عيب وألف نقص، ومن يتّقي في عقيدته كيف يعرف الناس ما لديه ويرون جمال ما يضمره،
أترى يصحّ هذا الغمز والنبز بعدما ألمسناك فوائدها، وأريناك منافعها ؟على أن اليوم بفضل المطابع قد انتشرت علوم الشيعة وعقائدهم،
فأين الكتمان وأين الإتّقاء ؟
وما كان الإتّقاء إِلا في ذلك العهد يوم كانت الشيعة قليلي العدد والاُهبة، ولو مسحهم السيف لم يبق للبيت وأهله ذكر وعلم وحجّة ورواية، وأمّا اليوم فهم في جنّة واقية من نشر هاتيك الكتب التي ملأت الخافقين، ولم تدع عذراً لكاتب وقارئ يزعمان أن مذهب الاماميّة باطنيّاً يتستّر بالتقيّة، لا نعرف مبادية وعقائده، ولا اُصوله وفروعه، فإن كتبهم بالأيدي، في كلّ علم وفن، ومصادرهم مقروّة ومداركهم مبثوثة.
من كتاب الامام جعفر الصادق عليه السلام
للعلامة الجليل الشيخ محمد حسين المظفر
نسألكم الدعاء