فقالت أسماء : نعم يا حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فقالت ( عليها السلام ) : اسكبي لي غسلاً .
فانبرت أسماء وأتتها بالماء فاغتسلت ( عليها السلام ) فيه ، وقالت ( عليها السلام ) لها ثانياً : إيتيني بثيابي الجدد .
فناولتها أسماء ثيابها ( عليها السلام ) .
ثم هتفت الزهراء ( عليها السلام ) بها مرة أخرى : اجعلي فراشي وسط البيت .
وعندها ذعرت أسماء وارتعش قلبها ، فقد عرفت أن الموت قد حلّ بوديعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فصنعت لها ما أرادت ، فاضطجعت الزهراء ( عليها السلام ) على فراشها ،
واستقبلت القبلة ، والتفتت إلى أسماء قائلة بصوت خافت : يا أُمَّاه ، إني
مقبوضة الآن ، وقد تَطَهَّرتُ فلا يكشفني أحد .
وأخذت ( عليها السلام ) تتلو آيات من الذكر الحكيم حتى فارقت الروحُ الجسد
، وَسَمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها ، لتلتقي بأبيها ( صلى الله عليه
وآله ) الذي كرهت الحياة بعده .
وكان ذلك في ( 13 من جمادي الأول ) من سنة ( 11 هـ ) ، وفي رواية أخرى أنه
كان في ( 13 ربيع الثاني ) من نفس السنة ، وفي رواية أخرى في ( 3 جمادي
الثاني ) من نفس السنة أيضاً .
ورجع الحسنان ( عليهما السلام ) إلى الدار فلم يجدا فيها أمهما ( عليها
السلام ) ، فبادرا يسألان أسماء عن أمّهما ، ففاجئتهما وهي غارقة في
العويل والبكاء قائلة : يا سيدي إن أمّكما قد ماتت ، فأخبرا بذلك أباكما ،
وكان هذا الخبر كالصاعقة عليهما .
فهرعا ( عليهما السلام ) مسرعين إلى جثمانها ، فوقع عليها الحسن ( عليه
السلام ) ، وهو يقول : يا أُمَّاه ، كلميني قبل أن تفارق روحي بدني .
وألقى الحسين ( عليه السلام ) نفسه عليها وهو يَعجُّ بالبكاء قائلاً : يا أُمَّاه ، أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن ينصدع قلبي .
وأخذت أسماء تعزيهما وتطلب منهما أن يسرعا إلى أبيهما ( عليه السلام )
فيخبراه ، فانطلقا ( عليهما السلام ) إلى مسجد جدّهما رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) وهما غارقان في البكاء ، فلما قربا من المسجد رفعا
صوتهما بالبكاء ، فاستقبلهما المسلمون وقد ظنوا أنهما تذكرا جدّهما ( صلى
الله عليه وآله ) فقالوا :
ما يبكيكما يا ابنَي رسول الله ؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما ( صلى الله عليه وآله ) فبكيتما شوقاً إليه ؟
فهرعا ( عليهما السلام ) إلى أبيهما وقالا بأعلى صوتهما : أَوَ ليس قد ماتت أُمُّنا فاطمة .
فاضطرب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهزَّ النبأ المؤلم كِيانَه ، وطفق يقول :
بمن العزاء يا بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟
كنتُ بِكِ أتعزَّى ، فَفِيمَ العزاء من بعدك ؟
وخَفَّ ( عليه السلام ) مسرعاً إلى الدار وهو يذرف الدموع ، ولما ألقى
نظرة على جثمان حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخذ ينشد ( عليه
السلام ) :
لِكُلِّ اجتِمَاعٍ مِن خَلِيلَيْنِ فِرقَةٌ... وَكُلُّ الَّذي دُونَ الفِرَاقِ قَليلُ
وَإِنَّ افتِقَادِي فَاطماً بَعدَ أَحمَد... دَلِيلٌ عَلى أَنْ لا يَدُومَ خَلِيلُ
وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام ( عليه السلام ) وهم يذرفون الدموع
على وديعة نبيهم ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد انطوت بموت الزهراء ( عليها
السلام ) آخر صفحة من صحفات النبوة ، وتذكروا بموتها عطف الرسول ( صلى
الله عليه وآله ) عليهم ، وقد ارتَجَّت المدينة المنورة من الصراخ والعويل
.
وعهد الإمام ( عليه السلام ) إلى سَلمَان أن يقول للناس بأن مواراة بضعة
النبي ( صلى الله عليه وآله ) تأخّر هذه العشية ، وتفرقت الجماهير .
ولما مضى من الليل شَطرُهُ ، قام الإمام ( عليه السلام ) فغسَّل الجسد
الطاهر ، ومعه أسماء والحسنان ( عليهما السلام ) ، وقد أخذت اللوعة بمجامع
قلوبهم .
وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها – الذين لم ينتهلوا من حنان
أُمِّهم – ليلقوا عليها النظرة الأخيرة ، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم
وعويلهم ، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء عليها .
ولما حَلَّ الهزيع الأخير من الليل قام ( عليه السلام ) فصلّى عليها ،
وعهد إلى بني هاشم وخُلَّصِ أصحابه أن يحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه
الأخير .
ولم يخبر ( عليه السلام ) أي أحد بذلك ، سوى تلك الصفوة من أصحابه الخُلَّص وأهل بيته ( عليهم السلام ) .
وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب ، ووقف ( عليه السلام ) على حافة
القبر ، وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، واندفع يُؤَبِّنها بهذه الكلمات التي
تمثل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلاً :
( السَّلام عَليكَ يا رسولَ الله عَنِّي وعنِ ابنَتِك النَّازِلَة في
جوارك ، السريعة اللحاق بك ، قَلَّ يا رسولَ الله عن صَفِيَّتِك صَبرِي ،
وَرَقَّ عنها تَجَلُّدِي ، إِلاَّ أنَّ في التأسِّي بِعظِيم فرقَتِك
وَفَادحِ مُصِبَيتِك مَوضِعَ تَعَزٍّ ، فَلَقد وَسَّدتُكَ فِي مَلحُودَةِ
قَبرِك ، وَفَاضَت بَينَ نَحري وصَدرِي نَفسُكَ .
إِنَّـا لله وإنَّا إليه راجعون ، لقد استُرجِعَتْ الوَديعةُ ، وأُخِذَتْ
الرَّهينَة ، أمَّا حُزنِي فَسَرْمَدْ ، وَأمَّا لَيلِي فَمُسَهَّدْ ، إلى
أَنْ يختارَ اللهُ لي دارَك التي أنتَ بِها مُقيم ، وَسَتُنَبِّئُكَ
ابنتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ على هَضمِها ، فَاحفِهَا السُّؤَالَ ،
واستَخبِرْهَا الحَالَ ) .
فأعلن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذه الكلمات شكواه للرسول ( صلى
الله عليه وآله ) على ما أَلَمَّ بابنتِه من الخطوب والنكبات ، وطَلبَ (
عليه السلام ) منه ( صلى الله عليه وآله ) أن يَلحَّ في السُؤال منها (
عليها السلام ) ، لتخبِرَهُ ( صلى الله عليه وآله ) بما جرى عليها ( عليها
السلام ) من الظُلم والضَيم في تلك الفترة القصيرة الأمد التي قد عاشتها (
عليها السلام ) .
وعاد الإمام ( عليه السلام ) إلى بيته كئيباً حزيناً ، ينظر إلى أطفاله (
عليهم السلام ) وهُم يبكون على أُمِّهم ( عليها السلام ) أَمَرَّ البكاء .
|