" عامٌ حزين "
ملأ رُغاء الجِمال فضاءَمكّة، فقد آبَت القوافل التي انطلقت إلى اليمن في رحلة الشتاء.. كان الجوّ بارداًوالسماء تزدحم بغيوم رمادية، وصخور الجبال الجرداء بَدَت وكأنّها تتضرّع إلىالسُّحب تنشدها قطرات المطر.
وشيئاً فشيئاً خَفَتت الأصوات وآبَت الطيور إلىأوكارها ساعةَ المغيب. كانت « فاطمة » مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها سورة « مريم » تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم في صومعتها تعبد الله تتبتّل إليه وحيدة.. تستكشف آفاق السماء متخفّفة من أثقال الأرض.
جلست فاطمة تترقب أوبةَأبيها، وبدا المنزل خالياً من كل شيء « لا زينب، ولا رُقيّة » ولا « أمّ كلثوم » ذهبن ثلاثتهن إلى بيوت أرواجهنّ؛ زينب استقرت في بيت « أبي العاص بن الربيع » و« أمّ جميل » اختطفت « رُقيّة » و « أُمّ كلثوم » لولديها « عُتبة » و « عُتَيبة »؛وكل هذا يهون أمام مصيبة كادت أن تعصف بكلّ شيء.. لقد رحلت أمّها.. « خديجة » ذلك النبع المتدفق حناناً وحبّاً ودفئاً..
ـ لكِ الله يا أمّي... ما كادت أعوامالحصار تمضي بأيّامها الصعبة ولياليها المضنية حتّى ودّعتِ الدنيا ليبقى والديوحيداً وهو أشدّ الناس حاجة إلى مَن يؤازره ويقف إلى جانبه.. ولكن يا أمّاه سأجهدنفسي لأملأ الفراغ الذي جَثَم على البيت بعد رحيلك. سأكون له بنتاً وأمّاً... سأمسحدموعه بيدين تشبهان يديك، وسأبتسم له كما كنتِ تُضيئين قلبه بابتسامتك.
ولكن ياأمّاه أنا ما أزال صغيرة.. ليتكِ صبرت قليلاً، أبي كان قويّاً بك.. وكان يتحدّىالعاصفة بعزم « أبي طالب » شيخ البطحاء.. تكفّله صغيراً وحماه كبيراً، غير أنكماتركتماه وحيداً واسترحتما من همّ الدنيا وغمّها، وحقّ لكما أن تستريحا وقد عصفتبكما النوائب من كل مكان، وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحِراباً. أجل يا أمي... لقد أظلمت الدنيا.. نشر المساء ستائره السوداء وهذا عامنا عام حزن.. ها أنا أنتظرأوبة أبي.. أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الاسلام.. ولكن مكّة ترفض ذلك.. تتمنّع وفيها من يحبّ حياة الظلمات كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحبّ النهار.
سمعت « فاطمة » خطىً هادئة كنبضات قلبٍ يخفق أملاً، خطىً تعرفها فاطمة.. لهذا هبّت كفراشةتهوي إلى النور بقوامها النحيل.. بعينيها الواسعتين سعة الصحراء وبابتسامتهاالمشرقة بالأمل..
ولكن لِم تسمّرت « فاطمة » في مكانها كأن خنجراً يطعن قلبهاطعنة نجلاء..
عاد أبوها حزيناً.. بدا وجهه كسماء مدلهمّة بِسُحب من رماد، كان ينفض عن رأسه ووجهه التراب والأوساخ.. وتمتم الرسول بحسرة:
ـ واللهِ ما نالَتقريش مني شيئاً أكرهه إلاّ بعد موت أبي طالب.
اهتزّت « فاطمة » لِهول ما ترىوبدت كسعفة أغضبتها الريح... يا لَصبر الأنبياء.. شعرت بالانكسار. كيف سوّلت لذلك السفيه نفسُه أن يمسّ بالسوء وجهاً يسطع بالنور؟!
بكت بانكسار.. وسالت دموعهاحزينة حزن سماء تمطر على هون.
مسح الأب دموع ابنته ثمّ قال وعيناه تشعّ انأملاً:
ـ لا تبكي يا فاطمة.. إن الله ناصرٌ أباك على أعداء رسالته.
انحسرت الغيوم عن السماء فبَدَت صافية مشرقة، وعادت الابتسامة إلى الوجه الملائكي.. ولكن عَتباً كان يموج في قلبها:
ـ تُرى أين كان فتى شيخ البطحاء.. وهو لا يكاد يفارق أباها..
يتبعه كظلّه.. يدفع عنه أذى السفهاء من قريش. ونسيت فاطمة كلّ شيء بعدأن ناداها أبوها فخفّت إليه كحمامة برّيّة تهفو إلى عشّها.
ابتسمت فاطمة... فانعكست ابتسامتها في وجه أبيها.. ابتسم محمّد.. أشرقت على قلبه شمس تغمره بالدفءوالأمل والحياة.. يالَهذه الحورية الصغيرة ذكرى خديجة.. وباقة ورد من جنّات السماء.
جلست فاطمة بين يدي أبيها النبيّ زهرةً تتفتح.. تتشرب كلمات الله. وتضيءالكلمات في قلبها كنجوم في سماء صافية.
وتمرّ ثلاثة أعوام. ونَمت فاطمة.. وتفتحت للحياة كما تتفتح الأزهار في الربيع.
:: تابعونا ::وردة 30