الأموالُ العامّة والاستغلال الخاطئ
إنّ لكلّ موردٍ من الموارد الماليّة تشرياً خاصاً بها للصرف لا يمكن
التلاعب به ، فقد نصّ عليه القرآن الكريم وعمل به الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) من بعده ، فإذا اختلّ التوازن في التطبيق دخل مدخلاً مُحرّماً شرعاً يُؤثَم به صاحبه ، إذ لا مجال للعَبَث بالمُقدّرات العامّة ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُحاسب ولاته شخصيّاً حينما يصل إليه تلاعب أحدهم بمال المسلمين ، وهو أشدّ شيءٍ عليه مثلما يتأثر لسوء معاملة رعيّته أو ظُلمهم في بعض الأحيان ، فهو يقول لزياد بن أبيه ، وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة .
( وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الأَمْرِ وَالسَّلامُ ) . ( 1 )
فعليٌّ ( عليه السلام ) يُقسم بالله هُنا ، إذا بلغه خيانته ـ أي : زياداً ـ من خلال التلاعب بمال المسلمين من غنيمةٍ أو خراجٍ وأخذه له ، ويقول له : لئن كان هذا المال صغيراً أو كبيراً فهو واحدٌ لديه ، فيُهدّده بالعقوبة الشديدة التي لا تفل أو تقلّ حتى تدعه قليل المال ، لا يستطيع على مؤونة عياله ويصبح بعد ذلك حقيراً .
إذن ، من خلال النصّ أعلاه نجد أنّ الإمام ( عليه السلام ) كم كان يؤكّد على مسألة الأمانة الشرعيّة ، ووضع الموارد الماليّة التي تعود للمسلمين جميعاً في محلّها المنصوص عليه ، ويلتفت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كذلك إلى ناحيةٍ أُخرى وهو أنّه لا يكون الاهتمام بأمر الخَراج والتأكيد عليه يدفع الجُباة والعُمّال للضغط على الناس ، ويُرهق كاهلهم ويسلبهم تحت عباءة الضرائب الخراجيّة أموالهم ، فإذا كان الأمر هكذا فسَدّ الغرض من الأصل ، الهدف ليس تحميل الناس ما لا طاقة لهم إنّما المعنى هو صلاح الناس ، وليس الانقضاض على معائشهم وخراب ديارهم ، والأعمال التي نتحدّث عنها
ــــــــ
( 1 ) نهج البلاغة ـ تحقيق د . صبحي الصالح ص 377 .
ونُفصّلها هدفها هو استقرار المجتمع وتقدّمه لا تحطيم المصالح العامّة ودمارها ، وإلاّ انتفت الأسباب من جَمع أموال الخراج ، فإنّ عِمارة الأرض كانت الأصل المُهم للاستفادة من خيراتها للإنفاق على مصالح الأُمّة الإسلاميّة ، والقرآن الكريم يُحذّر دائماً من الاستعمال والاستثمار الخاطئ لموارد الطبيعة ، واستغلال طاقة الإنسان استغلالاً سيّئاً بما لم يأتِ به نصٌّ ولا جاء به رسولٌ ، لأنّ ذلك معناه تدمير الحالة المعنويّة للإنسان الذي تربّى على هُدى القرآن والسُنّة المحمديّة ، والفساد لا يأتي من الأسفل ، بل من الأعلى إلى ما هو دون ، وأوّل ما يدخل يكون على العقل الذي تُسيطر عليه قوى الضلالة بحيث لا يُميز الخبيث من الطيّب .
والعقل أمّا أن يكون عقل الإنسان أو العقل الذي يُدير المجتمع وهو القائد أو الوالي ، فإذا شعر الإنسان البسيط بذلك الانحراف الصادر من الرمز الأوّل في المجتمع والمخالف لإرادة الباري عزّ وجل ، فالابتعاد عن أصل الاعتقادات والإيمان بتلك المبادئ السامية للدين يولّد انحرافاً خطيراً وعامّاً ومُستمراً ، وتُصبح العفونة عامّةً وسائدةً إن لم تُعالج قبل الوصول إلى حالة الاحتضار ثُمّ الموت ، أي موت المجتمع والحضارة معاً ، ولهذا يؤكّد الإمام ( عليه السلام ) على تفقّد أمر الخراج لصلاح أهله ، ويتبع ذلك المردود الايجابي الصالح على الجميع ، أي للصالح العام ، فالإحساس بالإنصاف في التعامل هو دفعٌ معنويٌّ للالتزام الخُلقي بما فرضته الشريعة ، والإخلال العام الذي يحدث من خلال عمليّة الجِباية ، والتحايل السلطاني والتلاعب الدهقاني كلّ ذلك سوف يدفع الناس إلى التهرّب من المفروض الشرعي إلى العمل الشيطاني ، وبالتالي فالتمرّس على هذه المفاهيم الخاطئة ، والتي سببها الولاة في أحيانٍ كثرةٍ ، يؤدّي إلى فساد الأمّة والإقلال ممّا تجمعه خزينة بيت المال إن لم يؤدِّ إلى عدم دفع ما يتوجّب دفعة وما يؤدّي ذلك
إلى اضطرابات ومشاكل وتحدٍ للسلطة القائمة والتي إمّا أن تتراجع وتسقط هيبتها ، وإمّا أن تستمر في الجور والظُلم ومعناه الثورة والاضطرابات وضياع كلّ شيءٍ ، وإمّا أن يُعزل الوالي ويأتي مَن هو أكثر سياسةً وعدلاً منه ، ومعناه فقدانه مكانته ، والنتيجة كلّها خسارةٌ بنسبٍ مُتفاوتةٍ ، وهي في نفس الوقت خسارة للمجتمع بصورةٍ أعم ، لأنّ الاعتماد الرئيسي في تقدّم الحياة العامّة ودوام مسيرتها على الخراج ، أي ما يدور من مالٍ في كيان الدولة ، وقد ذَكر ذلك الإمام ( عليه السلام ) في فصل الجُند وارتباط أعمالهم وجهادهم : ( ثُمّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ) ( 1 ) بما أنّ الدولة الإسلامية تسدّ أكثر حاجاتها من الخراج لسعة الأراضي الزراعيّة وخُصوبتها ووجود العاملين عليها ، فقد اهتمّ الإمام ( عليه السلام ) بهذا الأمر وتابع ولاته شخصيّاً ، ثُمّ يدفع الوالي إلى العدالة في الجباية بحيث يستشعر الناس بالرحمة والمراعاة ، وقد بيّن الإمام ( عليه السلام ) صورةَ التعامل وكيفيّة المسير إلى جباية الخراج والمهام المُلقاة على عاتق جُباة الخَراج في مُراعاتهم الناس والإحسان إليهم في معاملتهم أثناء جمع الخراج ، وقد قال ( عليه السلام ) في ذلك :
( مِنْ عَبدِ اللهِ عَلِيٍّ أميرِ المُؤمِنينَ إلى أصحابِ الخَراجِ ، أمّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ ، فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَوُكَلاءُ الأُمَّةِ وَسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ ، وَلا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ
ـــــــــ
( 1 ) نص العهد للاشتر .
وَلا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ ، وَلا تَبِيعُنَّ لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلا صَيْفٍ وَلا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَلا عَبْداً ، وَلا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ ، وَلا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَلا مُعَاهَدٍ إِلاَّ أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ ، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الإِسْلامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ ، وَلا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَلا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ وَلا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَلا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً ، وَأَبْلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَاوَعِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَأَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا ، وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ) . ( 1 )
ـــــــــــ
( 1 ) نهج البلاغة ص425 ، تحقيق د . صبحي الصالح .
إذا قيل إنّ عهد الإمام ( عليه السلام ) للأشتر يجب أن يُكتب بماء الذهب ، فالأحرى أن يكون كلّ كلامه ( عليه السلام ) كذلك ، ففي كلّ كتابٍ وخُطبةٍ وفصلٍ وكلامٍ حكمةٌ وعلمٌ ومعرفةٌ وهِدايةٌ ، فكُلّه مُتناسقٌ مترابطٌ يَسند بعضه بعضاً ، ويشرح كلامه بكلامه ، ويُعبّر عن القرآن والسُنّة الطاهرة بالتفصيل والتعريف والتعليل ، فما تنتقل من خُطبةٍ إلى أخرى أو كتابٍ إلى آخر إلاّ وتكتشف حقائق مجهولةٍ أخرى تُغنيك عن كثيرٍ من المعارف والعلوم .
إنّ الكتاب الذي أرسله سيّد الموحّدين ( عليه السلام ) إلى عُمّاله على الخراج حوى مفاهيم إسلاميّةٍ أساسيةٍ من التقوى والإيمان والعمل الصالح والرحمة والإنسانيّة ، ابتداءً من العلوم اللغويّة إلى العلوم الاقتصاديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.
منقووووول