اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم
(6)
سكت الناس ، وتوقّف التاريخ يصغي إلى كلمات عليّ تنبعث من جديد :
ـ اما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتل والغَدر. أتبكون فلا رَقَأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ! إنّما مَثَلكم كمثل الّتي نَقَضت غَزْلَها من بعدِ قوةٍ أنكاثاً ، تتّخدون أيمانكم دَخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاّ الصَّلف النطف والعجب الكذب والشنف ، ومَلَق الإماء ، وغمز الأعداء. كمرعى على دِمنة أو كفضّةٍ على ملحودة. ألا بئس ما قدّمتْ لكم أنفسكم أن سخْط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
كلمات تشبه الصواعق. وبدت الجموع كشواهد قبور دارسة تحترق.
كان الصمت ما يزال جاثماً فوق المكان كغراب أسطوري ، وكانت الكلمات وحدها تدوّي في أُذن التاريخ:
ـ أتبكون وتنتحبون! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشَنارها.. فتَعساً لكم وسُحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة ، وبُؤتم بغضب من الله ورسوله ، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة... ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيَّ كبِد لرسول الله فَرَيتم ؟! وأيَّ كريمة له أبرزتم ؟! وأي حرمة له انتهكتم ؟! وأي دم له سَفكْتم ؟! لقد جئتم شيئاً إدّا... تكاد السماوات يتفطّرنَ منه وتنشقّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّاً... لقد أتيتم بها خَرقاءَ شوهاء كطِلاعِ الأرض وملء السماء. أفعجبتم أن مَطَرت السماءُ دماً ، ولَعذاب الآخرة أخزى ، وأن ربّكم لبالمرصاد.
كانت الكلمات تتدفّق قوية كإعصار فيه نار ، وكان صهيلٌ غاضب يتردّد من بعيد.. قادماً من أرض كربلاء.. ما يزال الحسين يقاتل. فالحسين لا يعرف الموت. لقد كشف سرّ الخلود و مزّق بسيفه حجبَ الزمن. وها هي زينب تشير بيدها نحو الدرب.. الدرب الذي خطّه الحسين.
تساءل صوتٌ مدهوش :
ـ ولكنّ الحسين ما يزال في الرمضاء .. جسداً بلا رأس !!
ـ مجرّد إغفاءة.. سينهض الفارس الذي دوّخ القبائل .. سيلمع سيفه كبروق السماء ، وسينبعث جواده من مياه الفرات ، وعندها ستشتعل المعركة من جديد..
كربلاء معركة متجدّدة في كل أرض مظلومة وفي كل زمان جائر. وستغدو كلّ بقعة من دنيا الله كربلاء ، وسيمتدّ يوم عاشوراء ليشمل كل الزمن. سيصبح أطولَ يوم في التاريخ ، بل سيستوعب التاريخ كلّه.
ـ ها هي زينب.. ها هي بنت علي.
هتف حرّاس القصر ، وهم يتطلّعون الى قافلة قادمة.. قافلة تحوطها ذئاب غبراء.

::: يتبع :::