5
القافلة تطوي الصحراء .. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل
أضواء واهنة ، فتبرق ذرّات الرمال ،
والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكة تنساب في بطون الأودية ..
وخشخشة الأشواك تبوح بأسرار الليل . وصادفهم رجل في ((الصفاح)) يريد العمرة .
-من الرجل ؟
-الفرزدق بن غالب .
-هذا نسب قصير .
-أنت أقصر نسباً مني .. أنت ابن رسول الله .
ولاح سؤال عن الكوفة .. عاصمة أبيه وأخيه .
-قلوبهم معك وسيوفهم عليك .
أية قلوب تلك لا تنقاد لها السواعد .. القلوب الخائفة قلوب ميتة ..
وفي ((ذات عرق)) كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه ..
وبين يديه أيضاً الصحراء المترامية .. صحراء لا نهاية لرمالها ..
وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره . ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ أيام .. .
هزّ الرجل رأسه آسفاً :
-السيوف مع بني أمية والقلوب معك .
-صدقت .
-ماذا تقرأ يابن رسول الله ؟
-كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي .. فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله محرماً إلا انتهكوه .
-أنشدك الله في حرمة العرب .
ومضى الرجل إلى وجهته .. ومضى التاريخ بعد أن عرف مساره ..
كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة .
هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء .. سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة .
وفي ((الخزيمية)) لوت النوق أعناقها .. توقفت هنيهة .. أصغت إلى هاتف عجيب :
ألا يـا عين فاحتفلـي بجهـد
فمن يبكي على الشهداء بعدي
علـى قوم تسوقهـم المنايـا
بـأقـدار إلى إنجـاز وعـدِ
وتمتم الحسين :
-القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم .
-أو لسنا على الحق يا أبي ؟
تأمل ابنه الأكبر .. فحنّ إلى جدّه .. .
-بلى والذي إليه مرجع العباد .
-يا أبت إذن لا نبالي .
وفاضت عيناه شوقاً إلى جدّه .
وفي ((الثعلبية)) قال الحسين لرجل تاهت به السبل .. لا يدري أي الطريقين يسلك .
-يا أخا العرب لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبريل في دارنا .. أفعلموا وجهلنا ؟! وهذا مما لا يكون !
ومضى الرجل حائراً لا يدري أي الطريقين يعني النجاة .. طريق الحسين أم طريق الحياة .
ومضت القافلة لا تلوي على شيء . إلى الكوفة كانت الخطى تتجه ، ولكن القلوب
كانت تهفو إلى مدينة أخرى .. مدينة لم تولد بعد .
كبّر صاحب للحسين :
-رأيت النخيل .. نخيل الكوفة .
استنكر آخر :
-ما بهذا الموضع نخل .. وإنما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل .
ونظر الحسين :
-وأنا أراه ذلك .. أليس هنا ملجأ ؟.
-نعم ((ذو حسم)) جبل عن يسارك .
وأناخت النوق .. هوَتْ بأثقالها إلى الأرض .. توقّفت سفن الصحراء .
توقفت لتتأكد من اتجاه البوصلة ..أو لتواجه القراصنة .. قراصنة التاريخ ....
،
يتبع ~>