عرض مشاركة واحدة
قديم 04-10-2010, 02:50 PM   #9
حور عين
♣ مراقبة سابقة ♣
●•أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين •●
 
الصورة الرمزية حور عين
 
تاريخ التسجيل: Aug 2010
الدولة: بلاد الرافدين..النجف الأشرف
المشاركات: 1,015
معدل تقييم المستوى: 1067
حور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond reputeحور عين has a reputation beyond repute
افتراضي رد: قصصٌ من حياة المعصومين...عليهم السلام أجمعين



ونواصل سلسلة الحديث

عن الإمام جعفر بن محمد
صادق آل محمد عليه وعليهم السلام´

مدرسة الإمام جعفر الصادق(ع)
لم تكن المدرسة الجعفرية في خطها التعليمي
إلا تكميلية لمدرسة أبيه الباق، لقد كانت العلوم
كلها في المدرسة الباقرية ابتدائية اختيارية،
رسخها الإمام الراحل(ع)، بنسبة ما سمحت له
سياسة العهد الجديد في بغداد -
لقد كانت سياسة العهد هذا حريصة في ظلمها الاستبدادي على ترك العلوم والشؤون
الفكرية - الفلسفية والفقهية والتثقيفية في
عهدة الطالبين أبناء العم، على أن تكون الأمور التوجيهية محاطة بكثير من المراقبة،
فلا تمس سياسة الدولة في تمتين كرسي
الخلافة الآخذة حديثا بالانتقال من الأمويين
المنهزمين إلى قبضة فولاذية عباسية سفاكة -
لقد ظن العباسيون أنهم موالون لخط الإمامة
وأنهم المهتمون منذ أكثر من تسعين سنة برد
الخلافة الى خطها الأصيل،
والمحصورة بأهل البيت ولكنهم ما أن باد
عهد وبرز عهد حتى راحوا الى نكث المواعيد،
وعزموا على الاستئثار بالحكم ودمغ كرسي
الخلافة بختم أبناء العم، بحجة أنهم كلهم
طالبيون والأقوى هو الأولى.

هكذا اصطبغ الجو ببؤس جديد جمد الإمامة
هلعها القديم، وجعلها تستجير بتقيتها،
وتتلاق - ما أمكن _ بتعزيز مركزها الأمامي،
وملئه بكل ما يثقف الأمة ويوجهها الى احتواء
الحق كتعويض لها، حتى يأتي يوم تتمكن فيه
من تحقيق ذاتها تحقيقا آخر.
وتلك هي الظروف في سماحها
لمدرسة الباقر (ع)
بالاستمرار، والاتساع والمثابرة.
أما المدرسة الوارثة الجهد،
فإنها انتقلت إلى فخامة أخرى، تحررت من كل المحاذير، وانطلقت وشيعة إلى المضمار،
لقد كان العقل المتين رائدها المتين، إنها
الشخصية المتينة الحواشي، والمطمئنة
في باحات ذاتها المتينة، فرضت جلالها
وتقدمت إلى الميدان فإذا هي مهابة لم يخضع لها - وحده - السفاح الذي طواه سريعا رداء الموت،
بل خشع لها أيضا خليفته المنصور المثبت
قوائم كرسي حكمه، قائمة في جرن من لين
وقائمة ثانية في بئر من دم، وثالثة في لطوات
من وعد، ورابعة خلف ميثاق مقطوع منه
حبل الوريد، لقد كان رزمة من ظلم وكذب وختال،
وقل له الصدق وخفر الذمام،
إلا أرزاء جعفر الصادق(ع)،
المرخي عليه عينا وشيعة الحق بهية الشفق،
عميقة العلم، وصادقة الرؤى.
لقد كان كل ذلك عند الإمام (ع)
مُركّزا على صدق متين لم يتمكن المنصور إلا
من أن يأثر عنه، فتركه، يكمل خطه الرسالي
في مدرسته المثلى، لقد اقتنع المنصور،
عن فهم وإدراك أن

الإمام جعفر (ع)

لا يريد أبدا تلويث خطه الواسع بأي مطمع
بكرسي الحكم، ولقد أفحم المنصور بأن السياسة
عند الإمام إنما هي فن آخر يبعده إلى مطلق سفيّ،
لا لون فيه للسياسة التي يحترفها
نهج المنصور.

كثيرا ما تمتن اقتناع الإمام بأن العهد الجديد
الذي هو عهد الأعمام بني العباس، هو أقسى
ظلما وأشد عطشا إلى شرب الدم من العهد الأموي السابق الذي كان تهديدا بشعا بإبادة الطالبين،
وها هم الطالبييون
بالذات، مهددون بالفناء، إن لم يتداركوا
أنفسهم بسياسة مرنة تبقيهم في الخط، وتبقي لهم إمامة -
ولو مقلمة الأظافر - يتعدونها بعين الحكمة
وعين الروية، ويعبرون بها عن نشاطات كثيرة البراءة، وقويمة العزم، تتناول الأمة
فيها غذائها الحي، حتى يأتي يوم تجد ذاتها فيه أنها مثقفة أنيقة ..
وعندئذ فإن لها قدما متينة تمشي بها إلى
التحقيق .
لقد كان
الإمام (ع) يدرك أن الأمم الحية تبني بناءا حيا،
وأن الاستمرار هو الذي يكون مادة من مواد البناء وأن التحقيق يأتي يوما بعد يوم،
من دون أن يخيفنا القول:
أنه يأتي حقبة بعد حقبة، أو دهرا بعد دهر،
تأكيدا لما تفوه به
الإمام علي ع :
جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى الساعة.

هذا هو ما جعل الإمام صادقا في قناعة المنصور،
بأن كرسي الخلافة ليس مقعده،
وأن السياسة ليست أبدا خطه، من دون أن
يلحظ المنصور أن السياسة الأصيلة بمعناها
الصحيح والأصيل، لم يتخل – مطلقا -
عنها الإمام(ع)، فهي محصورة، ضمنا وفعلا،
في خط البناء المركز على تثقيف الأمة مع
أي مجال ولو طال ، ولن تتم الثقافة إلا بنشر العلم المنتج كشفا عن كل الطاقات المادية والروحية
على السواء، والتي تسدد اقتصاد الأمة
وهي تمتن بلوغها المرتاح، ينوره الفكر وحرية
الفكر، والفهم وقدسية الفهم ، والمعرفة
وسع المعرفة، والمران واستمرار المران.
حتى ولو أن المنصور تمكن من هذا التفهم لحقيقة

سياسة الإمام (ع)،
فان ذلك - أيضا - كان من مبتغى الإمام (ع)،
لأن مثل هذا التفهم قد ينقل المنصور من ظالم غاشم ، إلى حكم يرعى مهام العلوم وهي تنقل الرعية كلها
من جهل عقيم ومقيم إلى وعي ينهض بها وئيدا
نحو جعلها هادية وملبية شوق المشرع العظيم.

ربما كان بعض من هذا التفهم قد استحازه المنصور، فترك الإمام يوسع المدرسة الموروثة عن
أبيه الباقر (ع).
هذه إلمامة بنوع السياسة التي اعتمدها اقتناع
الإمام ، وهي التي كانت سناده في توسيع
المدرسة الجعفرية التي كانت رائدة
ذلك العصر، ورائدة العصر التي تلتها حق اليوم.

توسيع المدرسة الجعفرية بعلومها الاختيارية والنظرية:
إن المدرسة الجعفرية التي وصفتها منذ لحظات،
كانت مجرد مسجد بسقف وحيطان يلتم في أفنيته في مدينة يثرب ، طلاب ورواد، وكان

الإمام جعفر(ع) أستاذهم الأوحد والأمثل

يتبسط أمامهم بالعلوم الاختيارية: كالفيزياء، والكيمياء، والطب، وعلوم الجغرافيا، إلى جانب
علوم آخر في العلوم النظرية،
ومن أبرزها:
الفلسفة، وعلم الحديث، والفقه، والبيان،
وإلهامات وشيعة بالشؤون الفكرية - الروحية المتفتحة على حرية إبداء الرأي ، تضبطها كلها الموازين الدقيقة، ومن أحرصها التسجيل والتدوين.

إن وسع المعرفة عند الإمام(ع)، والتركيز العقلي المتين، وصفاء الذهن تدعمه ذاكرة رادارية اللمح، مقلوبة عن عدسة بلورية التسجيل، كل ذلك هو
الذي وسع المدرسة وفتح حيطانها وأفنيتها، وجعلها جامعة موسوعية المعارف، وها هي -حتى الآن - تعيش بأسماء من خرجت:
كهشام بن الحكم، وجابر بن حيان، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة، مع عدد وفير من التلامذة الذين فاق عددهم الأربعة آلاف، وهؤلاء كلهم قد التزمت مدرسة الإمام بأعدادهم للانطلاق إلى كل دائرة يزيدون من توسيعها مع مطالع للأيام .

أما علوم المدرسة الجعفرية، أكانت اختباريه تفتش عن توسيع أرقام معادلاتها، أم نظرية تحاول تقصير كلماتها، فليس لي أن أحقق بأي ضلع من ضلوع مستوياتها، لأنها واقعة في حصة غيري من الباحثين، ولكني - بالوقت ذاته -
أشير إليها بجدية بالغة العمق، لأني أعتبرها كلها في الخط الموحد مع الجانب الاجتماعي والسياسي الذي هو هدف الإمامة الثابت منذ انبثاقها من ضمير الرسالة.

ثانيا - طاقات الإمام (ع)وتوحيدها من أجل الاجتماع:

تلك هي إشارات شديدة الاقتضاب،
إلى مجمل العلوم التي تركزت عليها مدرسة
الإمام (ع)،
أنها جانب جليل من بين الجوانب الوسيعة
التي تتألف منها شخصية الإمام (ع).
ويعني هذا القول أن العلوم الاختيارية التي عالجها الإمام ،كانت رديفا للعلوم النظرية الأخرى إلي أنبنى بها وزنه، مع العلم أن كل مادة من هذه العلوم الاختيارية هي فرع وسيع قائم بذاته، ولا تتم إحاطة
ما ، بمحتواه ، إلا بالاختصاص المتنسك،
بينما نرى الإمام الكريم قد جمعها كلها إلى عبه،
وزينها جميعها بالعلوم النظرية التي راحت تفسرها وتألف معها في الأداء والإخراج.

ما كانت فلسفة الإمام (ع)
إلا بحاجة إلى العلوم،
وما كان علم الإمام (ع) إلا بحاجة إلى فلسفة توسع له الطريق، أي أن العلم يحتاج إلى فلسفة تفتش عنه
حتى يتم الوصول إليه،
أي - بشكل أوضح - أن الفلسفة،
في رأي الإمام (ع)
، تسبق العلم الموصل إلى اكتشاف الحقائق، في المحرضة والمفتشة عن نور العلم قبل أن تحقق -
هي - أي شعاع من أشعته الكاشفة.هكذا
ربط الإمام(ع)

فلسفته النظرية بتحقيقاته الاختيارية، ووجه كل طاقاته الذاتية نحو هدف كبير مخبأ خلف مدى
عينه الأمامية المنبثقة النور من مهجة الرسالة التي هي تحقيق مجتمع الإنسان الهابطة من أجله آيات الرسالة .

لقد تم لنا في ما سبق من مقدمات هذا البحث،
أن لمحنا إلى أهمية الإمامة، كيف أنها لزوم
إحاطة روحية وفكرية متينة التركيز، يتجلبب
بها كل من تنتهي إليه، ولقد لمحناها- بكل
انعكاساتها على كل واحد من فتيانها العظام
-كيف كانت ابتكارا في ترجيه الأمة توجيها
ملونا بأحداث العصر.
لقد قدم كل إمام(ع)
للأمة ما تستعيض به في مسيرتها المقهورة،
وكان تثقيف الجماهير من أبلغ اهتمامات
كل إمام - بمفرده - كذخيرة تصلح وتمتن البناء والتوجيه.
ها هي الأمة الآن بين يدي أعز خبير من خبرائها الطيبين، وهو المدرك تمام الإدراك أن العلم الكبير
هو الباني الأفخم، والرازم الأولى لمداويك
المجتمع، وأن الكلام المنمق - وحده -
لا يبني، ولا يكفي، وأن الفلسفة التي هي كلام
وتنظير - مهما يكن لونها - وعمق مداها - لا تفيد،
ما لم تقترن بشوقها الحار المفتش عن العلم
الذي هو عطر الزهرة الهاجع فيها
والمشع منها.


من أجل المجتمع الذي هو أمة في الرسالة،
ورسالة في الإمامة، شحن الإمام (ع)
كل قواه الفكرية والروحية، وأعنى بها كل طاقاته النظرية والاختيارية،
وراح يوحدها في رزمة واحدة لتسديد
الجهد الكبير الهادف إلى رفع مستوى الأمة
التي من أجلها صيغت كل الروابط المشدودة
لبناء الإنسان الذي
هو عصب الرسالة الأمجد والأروع فوق ساحات الأرض.

فلنستمع مليا إلى كل هدف من أهداف الإمام(ع) :

• اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشق اللجج.
• اكتبوا - فأنكم لا تحفظون حق نكتبوا.
• اكتب ، وبث علمك في إخوانك، وإن مت فورث كتبك بنيك.
• إن لم تكونوا حملة العلم وناشريه بين الناس فكونوا حفظة له.
• لقد كان - بهذا القول - أشد من عول
على العلم،
وأول من ارتأى ضبطه بواسطة التدوين،
وأول من أدرك أهميته واعتباره إرثا،
وأوص به موروثا مع أعقاب السنين.
ومن أجل المجتمع رزم كتبه في الأخلاق، والأدب، والأحكام: الكافي، ومن لا يحضره الفتيه، والتهذيب، والاستبصار. . .
وهكذا تم تدوين كثير منها،
ومن بينها ما يتعلق بالعلوم التجريبية والنظرية.

ومن أجل المجتمع أطلقت مدرسة الصادق
حرية الرأي، فانتشر المذهب الجعفري جنبا
الى جنب، مع البحوث العلمية، ولا غرو في ذلك،
فالمعارف الجعفرية كلها كانت مبنية
على أربعة أصول:
المذهب، الأدب، العلم، العرفان.

أما الأدب فهو اللباس الأنيق للعلم والفكر. وهو قيمة جمالية، والأدب، قد لا يكون علما.
ولكن - لا علم يخلو من أدب -
وأن المجتمع السليم يقوم بتحلي أفراده بالعلم والأدب.واحتراما للأدب كان يخصص جائزة لأي صاحب نص أدبي مميز، بواسطة لجنة خماسية،
يحكم ثلاثة منها على الأقل، لاستحقاق الصنيع .

ومن أجل المجتمع أعطى دروسا في علم البيئة واختصرها بهذا القول :
على الإنسان ألا يلوث ما حوله لكي لا يجعل الحياة شاقة له ولغيره وها أن علماء البيئة اليوم ، يرون - صحيحا ما سبق ونوه عنه الإمام الصادق(ع)
في ذلك العصر،
وراحوا يتعهدون العمران بالنظافة، وتوسيع نوافذ البيوت لوصول الشمس ، وإنشاء المغاسل
والمجارير لتأمين مثل هذه الصيانة.



الحالة الفكرية والعلمية:
لقد بقي الحكام الأمويون غير منسجمين ولا مهتمين
أصلا بالقضايا الفكرية العلمية والأدبية إلا بما يخدم
سلطانهم ويثبت زعامتهم , ولذ خلا العقد الأموي
في غالبه من نمو وتطور للفكر والعلم الديني وغيره,
إلا أن الفتوحات الإسلامية التي أدخلت عناصر جديدة
غير عربية وغير مسلمة إلى الإسلام أحوجت المسلمين
الجدد والمترجمين إلى البدء بأعمال التدريس والتعليم ,
وبدأت حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية وغيرهما. .
فانصرف الناس عن الحكام وانشغل الحكام الأمويون
بأنفسهم وبسلطانهم في آخر عهدهم
فبرزت بوادر نهضة فكرية وعلمية وحركة فلسفية خطيرة
ولذا فإن:
(الحركة العلمية والمذاهب الدينية, والنظم الاجتماعية
في آخر الدولة الأموية أرقى من أولها . . . ) (1)
و
(قد ساعد على التحرك الفكري السريع في مطلع الدولة
العباسية قيام الفترة مابين الدولتين التي حررت الفكر
من رقابة الحكم وقيوده , بتأثير انصراف الحكم لترميم
مواقعه في محاولة لاستعادة السيطرة الشاملة . .)(2) .


ولقد تلخصت خطوات الحركة الفكرية عامة في تلك
الحقبة الزمنية بالأمور التالية:
1ـ بدء حركة الترجمات المختلفة وإدخالها مواضيع
جديدة
وخطيرة على المجتمع الإسلامي.
2ـ إقبال المسلمين الجدد إلى التعرف على الإسلام
والقرآن وتعلمه ومعرفة أسراره ومعانيه وبالتالي
استدعاء ذلك لوجود علماء وقراء.
3ـالبدء بمرحلة تدوين الحديث ,
بعدما داخله التشويه والدس
خصوصا في العصر الأموي ومن ثم بُعد الشقّة
عن مرحلةالإسلام في سنيه الأولى.
4ـ كثرة المحدثين والرواة حيث امتدت الحركة العلمية
لتشمل
سائر الحواضر الإسلامية الكبرى في
انطلاقة فريدة(3).

5ـ انتشار الفلسفة بمواضيعها وشخصياتها ومفاهيمها ومصطلحاتها الجديدة:
(ولا مشاحة أن انتشار العلم في ذلك الحين,
قد ساعد على فك الفكر من عقاله,
فأصبحت المناقشات
الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم
الإسلامي
. . . )(4)
ولا نغفل هنا عن أن الحكام العباسيين
ـ بخلاف الحكام الأمويين ـ قد نشأوا في بيت علمي
عريق حيث يعود نسبهم إلى عبد الله بن عباس
المشهور بأنه حبر هذه الأمة, ويعني ذلك تشجيعهم
لحركة العلم والفكر الديني بالأساس ولو كان ذلك
لغايات في نفوس العباسيين . . .

دور الإمام الصادق (عليه السلام):
أمام هاتين الحالتين الخطيرتين للأمة الإسلامية في المرحلة
التي عاشها صادق أهل البيت (عليه السلام) كان لا بد من موقف
واضح وحاسم وحازم يتخذه الصادق (عليه السلام)
على الصعيد الفكري والعملي . . .

أولا: موقفه من السلطة:
أدرك الإمام الصادق (عليه السلام) أن الظروف
السياسية والعسكرية والاجتماعية المحيطة به لم تكن
لتساعده لقيام بأي ثورة أو انتفاضة عسكرية أو
سياسية وهو قد رأى وعلم ما جرى
لجده الحسين (عليه السلام) وقبله
لأخيه الحسن (عليه السلام)
ولأبيهما علي(عليه السلام)
وما جرى بعد ذلك من تجديد للموقف العاطفي
والانفعالي مع عمه زيد بن علي (عليه السلام)
حيث أيده المحبون لأهل البيت ثم خذلوه كما
خذلوا أجداده, وأدرك أيضا أن أي ثورة قد تنتهي
لا بفشل صاحبها فقط وإنما بضياع الخط والرسالة
والمذاهب أيضا , ولذا فقد كان يعلم وهو وريث الأوصياء,
بفشل حركة ابن عمه محمد بن عبد الله المحض,
وأدرك كذلك أن المرحلة تقتضي منه كما اقتضت
من أبيه الباقر(عليه السلام) شق طريق العلم
وسبر أغواره وتبيان خفاياه ورسم معالمه.
ومن أجل ذلك أي لعدم توفر الظروف لثورة محتمة
النصر والفوز, ولعدم وجود بديل آخر إن هو قتل
ليؤدي الدور العلمي الأساسي المطلوب في تلك المرحلة,
وحيث إن السلطان والثورة وسائل لخدمة الدين
فمع تعسرهما هناك الوسائل الأخرى المهيأة لخدمة
دين الله, وهذا ما وجده وقام به
الإمام الصادق (عليه السلام) خير قيام . . .
وهو ما سنشير إليه بعد قليل.

ثانياً: من مواقفه الجريئة:
وقبل الحديث عن الجهاد العلمي والفكري
للإمام الصادق (عليه السلام)
لا بد من الإشارة والتوقف عند شجاعة وجرأة
الإمام الصادق (عليه السلام) في مواقف شهد له التاريخ بها . . .
نشير لبعضها حتى لا تذهبن المذاهب
والأهواء بأفكار أحد , فمن ذلك:

أ‌) حكمة بسيطة واجه بها المنصور العباسي
عندما تسلط عليه الذباب بشكل متكرر فتضايق
المنصور وسأل الصادق:
لأي شيء خلق الله الذباب؟
فكانت وبشكل غير مباشر كلمة حق
في وجه سلطان جائر: (( ليذل به الجبارين )) (5).

ب‌) موقفه من والي المنصور على المدينة شيبة
بن غفال الذي مدح الخليفة وأهل بيته وشتم عليا
وأهل بيته (عليهم السلام) من على منبر مسجد النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)
فكان مما قاله الصادق (عليه السلام):
((أما ما قلت من خير فنحن أهله وما قلت من
سوء فأنت وصاحبك (المنصور) به أولى, فاختبر
يا من ركب غير
راحلته وأكل غير زاده , ارجع مأزوراً)) (6).

ت‌) كلامه للمنصور في مجلسه بعد أن قصد إحراجه
بكلمات فكان الرد الحاسم من الإمام الصادق
(عليه السلام) :
((أنا فرع من فرع الزيتونة, وقنديل من قنديل
بيت النبوة, وأديب السفرة وربيب الكرام البررة,
ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور
وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر)) وكان من جواب المنصور:
( . . . هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء . . . )
(7).

ث‌) كان مما يُعلم به الامام الصادق (عليه السلام)
أصحابه رفض الارتباط بالسلطان الظالم بأي نوع
من أنواع الارتباط , ولم يرد عن الصادق(عليه السلام)
حضوره عند حاكم إلا عندما كان يستدعيه هؤلاء
بالقوة إلى قصورهم , كما فعل به السفاح المنصور
حين استقدماه مرات عديدة من المدينة إلى العراق,
وكان مما يقول لأصحابه:
((إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار
حتى يحكم الله بين العباد. . .))

ورد على المنصور مرة يقوله:
((. . . من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة
لا يصحبك . . .)) (8).

ج‌) إن علاقة الامام الصادق (عليه السلام) بالحكام
ـ العباسيين بالخصوص ـ كان علاقة الند للند,
فلم يؤثر عنه مبايعته لأحد منهم,
ولم يوجس منهم خيفة أبدا ولم يخضع لهم أو يهن
أمامهم بل ظلت العلاقة سلبية خصوصا
من جانبهم خوفا من دوره وخطره عليهم ومعرفتهم بحقه
وفضله ودوره بين الناس, ولذا لم يتجرأوا على قتله
علنا بل دس له المنصور السم سرا حتى استشهد,
ولقد هم المنصور بقتله غير مرة فكان إذا بعث إليه
ودعاه ليقتله نظر إليه وهابه ولم يقتله (9),
ولقي جعفر بن محمد أبا جعفر (المنصور):
فقال:
((. . . رد علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها )) ,
قال: إياي تكلم بهذا الكلام ! والله لأزهقن نفسك (10) .
وقال مرة للمنصور:
((إنه لم ينل أحد منا أهل البيت دما إلا سلبه الله ملكه,
فغضب لذلك واستشاط . . . )) (11)
وهناك موقف أخرى كثرة تدل على شجاعته وجرأته
واستعداده للجهاد لو كانت هناك إمكانية
وظروف مهيأة.

ثالثاً: الدور العلمي الأساسي للصادق(عليه السلام):
قبل التطرق إلى الجوانب الأساسية في دور
الإمام الصادق (عليه السلام) الفكري نقتطف
بعض الأقوال والشواهد على أهمية دوره وموقعه
ونشاطه العلمي آنذاك.
لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام)
(يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائها
عمل الحكام في الإسلام . . . وهو بوجه خاص حجر
الزاوية من صرح (أهل البيت) . . . وهو مقيم في المدينة . . . يتخلق فيها المتفقهة,
حول علماء الإسلام في مسجد الرسول . . .)(12)

و(ينقل عن الصادق من العلوم ما لا ينقل عن أحد,
وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة
(الذين حدّثوا عنه على اختلافهم في الآراء والمقالات,
وكانوا أربعة آلاف رجل )(13)
و(لا يفوتنا أن نشير إلى أن الذي تزعم تلك الحركة هو . . . المسمى بالإمام الصادق . . . وهو رجل رحب أفق الفكر,
بعيد أغوار العقل , ملم كل الإلمام بعلوم عصره,
ويعتبر في الواقع أنه أول من أسس المدارس الفقهية
المشهورة في الإسلام , ولم يكن يحضر حلقته العلمية
أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب,
بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون
من الأنحاء القاصية)
(14) ولقد:
(أدركت في هذا المسجد ـ يعني الكوفة ـ
تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد . . . )
(15).

ولقد نقل عن ابن خلدون قوله:
(ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان نعم المستند
من نفسه أو من رجال قومه. فهم أهل الكرامات
وقد صح أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون
لهم فتصبح كما يقول) (16)
وعن تلامذة الصادق ينقل:
(كان تلاميذ الصادق مدونين كباراً . . .
ومن بعد وفاة الصادق في عام 148دوّن أربعة آلاف
من التلاميذ في كل علومه ومن جملتها ما يسمى بالأصول الأربعمائة . . . وتلاميذ الصادق المشهورون.
من كبار أهل السنة أشياخ لفقهاء في جميع المذاهب
. . . وشرفوا بالرواية عنه, ووقفت المذاهب الأربعة
موقف الإجلال له . . . )(17) .

وعن زمان الإمام الصادق (عليه السلام) ينقل:
(وقد ظهرت فجأة حركة علمية غير عادية والأرض
تهيأت لأن يعرض كل إنسان ما يملك من أفكار)
و (برزت . . . سوق لمعركة عقائدية حامية) و
(شرع في البحوث حول تفسير القرآن وقراءة آياته) و
(. . . ظهرت طبقات منتشرة . . . باسم الفقهاء) و
(كل هؤلاء قد واجههم الإمام (عليه السلام) وصادفهم )
وقد ذكر الجاحظ عن الصادق (عليه السلام):
(جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه)
(18).

ولا شك أن الخطوات التي سعى الصادق (عليه السلام)
بها لتأدية
دوره الأساسي لم تقتصر على أسلوب واحد
في تبليغ رسالة
جده (صلى الله عليه وآله وسلم),
بل لم يترك الصادق (عليه السلام) فرصة سائحة
ولا وسيلة,ممكنة أو مناسبة إلا واتبعها لتحقيق
لك الغرض.
ويكفينا دليلا على ذلك مناظراته مع العلماء ومع
المبتدعين من الزنادقة والملحدين والمشككين بدين الله,
وجلساته الوعظية
والتبليغية من على منبر جده
(صلى الله عليه وآله وسلم)
ليعلم الناس علوم الإسلام والقرآن من فقه ورواية
وحديث وتفسير وبيان وأخلاق وعرفان,
وكل ما يحتاجه المسلم في حياته,إلى إرشاداته
العلمية المحضة
كالطب والكيمياء وغيرهما مما علمه بعض
تلامذته فبرع
به واشتهر كهشام بن الحكم وجابر بن حيان
وغيرهما كثير.
فيمكننا إذا مما تقدم من الأخبار وغيرها من الأحاديث
التي تبدي الإعجاب, استنتاج النقاط التالية

عن الصادق (عليه السلام)

دوره وعصره وشخصيته:
1ـ شخصية الصادق (عليه السلام) المرموقة
عند كل المسلمين واحترامهم وتقديرهم له.
2
ـ إن الصادق (عليه السلام) ما كان ليؤدي هذا الدور
لكونه شخصية عادية ولا لكونه صاحب مذهب نسب إليه . . . وإنما هو حلقة في سلسلة الأئمة الاثني عشر
المعصومين (عليهم السلام).
ولو نسب له المذهب الجعفري فإن النسبة مجازية
لأنه أكمل دور آبائه وأجداده.

3ـ إن الصادق (عليه السلام) بحر من العلوم
بمختلف أنواعها, ولذا كانت الروايات المستفيضة
عن تعليمه ومناظراته ورسائله في مختلف المجالات.

4ـ لم يقتصر دور الصادق (عليه السلام) العلمي
على تلامذته من أتباع مذهبه , وإنما كان همه
إيصال الفكر الرسالي إلى الأمة جمعاء.

5ـ إن فضله العلمي البارز لواضح من حاجة الكل
إليه واستغنائه عن الكل, فلم يتتلمذ الصادق (ع)
عند أحد من علماء عصره
سوى ما أخذه عن
أبيه الباقر وجده زين العابدين(عليهم السلام).

6ـ إن روايته كانت
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
مباشرة دون أن يحتاج لأن يسأل عن السند لأن
السند في الروايات
(إن احتاج إلى سند) هم آباؤه المعصومون,
أبوه محمد عن جده
زين العابدين عن الحسين عن علي أو الزهراء
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

7ـ إن الصادق (عليه السلام) قد أمر بتدوين الحديث
فكان بحق أول من أمر بالتدوين (19).

8ـ لقد أعاد الصادق (عليه السلام) بدوره العلمي
والفكري ـ وإكمالا لنهج أبيه الباقر(ع)
ـ
الاعتبار لموقعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
ودورهم الطبيعي في الحياة الإسلامية العامة بعد فترة
من الظلم والاضطهاد والإجحاف والأبعاد والإلقاء
امتدت طيلة العقد الأموي (كما تجددت محاولات
أخرى قام بها العباسيون لإلغاء دورهم لاحقاً).

وبالخلاصة:
جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)
علم آخر من أعلام الهدى , قاد سفينة النجاة في بحر الفتن
رغم تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف
عند الحكام والضياع عند الأمة المسلمة.
وقف صادحا بالحق من على منبر جده
(صلى الله عليه وآله وسلم) مجاهدا بالكلمة شاهدا
على الأمة والحكام , غير بعيد عن الجهاد,
مُلقيا الحجة ليسقط شهيدا آخر مع قافلة الشهداء
الأولياء بسم دسه إليه المنصور ظنا منه أنه
يخرس صوت الحق, ولكن المنصور رغم ذكائه
غفل عن أن الحق لا يقتله السم . . .
رحل الصادق (عليه السلام) إلى ربه بعد أن أدى الأمانة
وقال بصدق:
((الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للناس
جميع ما تحتاج إليه)) (20).

عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):

((لًوددتُ أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط
حتى يتفقهوا في الحلال والحرام))

(( ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني,
ولكن الإيمان ما خلص في القلوب,
وصدقته الأعمال)).

((حجة الله على العباد, النبي ,
والحجة فيما بن العباد وبين الله, العقل)).
ضحى الإسلام/ أحمد أمين/ ج1ص2-3.
2-الإمام الصادق نفسه / خصائصه / مميزاته/ محمد جواد فضل الله / ط 1981م/ دار الزهراء/ بيروت / ص188.
3- المصدر نفسه/ ص126.
4-مختصر تاريخ العرب / السيد مير علي الهندي / ص179.
5-راجع البحار/ مصدر سابق/ ص166.
5-المصدر نفسه / ص165وكذلك :مجالس الشيخ الطوسي / المجلس الثاني.
6- المصدر نفسه/ ص167.
7- راجع في هذا الروايات كتاب الكافي للكليني ج5/ ص106-107
8-البحار/ مصدر سابق / ص184,
المصدر نفسه / ص180.
10ـ الطبري/ مصدر سابق/ ص603.
11ـ الكافي للكليني / كتاب الدعاء/ باب الدعاء للكرب والهم والحزن.
12ـ الإمام جعفر الصادق/ المستشار عبد الحليم الجندي / مطابع الأهرام التجارية / القاهرة/ ط1977م/ ص63,
13ـ البحار/مصدر سابق/ ص28.
14- مختصر تاريخ العرب /الهندي/ص179.
15- الإمام الصادق/ فضل الله / مصدر سابق/ ص129.
16-الإمام جعفر الصادق/ الجندي/ مصدر سابق/ ص206.
17- المصدر نفسه/ص207-244-23500.
سيرة الأئمة الأطهار /المطهري/ص109-114-120-124-125-126.
18- الإمام جعفر الصادق/ الجندي / ص206-207.
19ـ المصدر نفسه/ ص367

ونواصل بفضل الله تتمة الحديث في
المرة القادمة بإذن الله...
الحمد لله رب العالمين
وصلّ الله على محمد وآله الطيبين المنتجبين











__________________
التوقيع



فان نهزم فهزامون قدما *
وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن *
منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا افيقوا *
سيلقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الموت رفع عن أناس *
بكلكله اناخ بآخرينا

( اللهم إنه لم يمس أحد من خلقك أنت إليه أحسن صنيعا، ولا له أدوم كرامة ولاعليه أبين فضلا، ولابه أشد ترفقا، ولا عليه أشد حيطة ولاعليه أشد تعطفا منك علي، وأن كان جميع المخلوقين يعددون
من ذلك مثل تعديدي فاشهد ياكافي الشهادة بأني اشهدك بنية صدق بأن لك الفضل والطول في إنعامك علي وقلة شكري لك فيها.
يا فاعل كل إرادة، صل على محمد وآله، وطوقني أمانا من حلول السخط لقلة الشكر،
وأوجب لي زيادة من إتمام
النعمة بسعة الرحمة والمغفرة، أنظرني خيرك ...ولا تقايسني بسوء سريرتي، وامتحن قلبي لرضاك، واجعل ما تقربت به إليك في دينك خالصا ولاتجعله للزوم شبهة ولا فخر ولا رياء ياكريم،




اللهم أرفل ببركاتك ونعمائك ورضوانك على حبيبتي
أحلى قمر



نسأل الجميع براءة الذمة.....
حور عين غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس