وكانت الوصيّة الأخيرة له عليه السلام
لمّا حضرت أبا طالبٍ الوفاة، جَمعَ إليه وجوهَ قريش فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خَلْقه وقلب العرب، فيكمُ السيّد المُطاع، وفيكمُ المِقدامُ الشجاع، الواسع الباع.
اعلموا أنّكم لم تَتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلاّ أحرزتموه، ولا شرفاً إلاّ أدركتموه، فلكم بذلك على الناس فضيلة، ولهم به إليكمُ الوسيلة.
والناس لكم حَرب، وعلى حربكم إلْب. وإنّي أُوصيكم بتعظيم هذه البَنيّة ( أي الكعبة )؛ فإنّ فيها مرضاةً للربّ، وقواماً للمعاش، وثباتاً للوطأة.
صِلوا أرحامَكم ولا تقطعوها؛ فإنّ صلة الرَّحِم مَنْسأةٌ في الأجل، وزيادةٌ في العدد.
واتركوا البغيَ والعُقوق؛ ففيهما هَلَكة القرون قَبلَكم. أجيبوا الداعي، وأعطُوا السائل؛ فإنّ فيهما شرفَ الحياة والمماة. وعليكم بصِدق الحديث، وأداءِ الأمانة؛ فإنّ فيهما محبّةً في الخاصّ، ومكْرُمةً في العامّ.
ثمّ قال أبو طالب رضوان الله عليه موصياً وجوه قريش:
وإنّي أُوصيكم بمحمّدٍ خيراً؛ فإنّه الأمين في قريش، والصِّدّيقُ في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتُكم به ( أي من مكارم الأخلاق )، وقد جاءنا بأمر قَبِلَه الجَنان (أي: القلب)، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن.
وأيمُ الله! كأنّي أنظرُ إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعَفين من الناس، قد أجابوا دعوتَه، وصدّقوا كلمتَه، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمراتِ الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودُورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً.. وإذا أعظمُهم عليه أحوَجُهم إليه، وأبعدُهم منه أحظاهم عنده، وقد مَحَضَتْه العرب وِدادَها، وأصفَتْ له فؤادَها، وأعطَتْه قيادَها.
دونَكم يا معشرَ قريشٍ ابنَ أبيكم: كونوا له وُلاةً، ولحزبه حُماةً. واللهِ لا يسلك أحدٌ سبيلَه إلاّ رَشَد، ولا يأخذ أحدٌ بهَدْيه إلاّ سَعَد. ولو كان لنفسي مُدّة، وفي أجَلي تأخير، لَكففتُ عنه الهزاهز، ولَدافعتُ عنه الرواهي.
نقل هذه الوصيّة جملة من المؤرّخين وأصحاب السِّير والمحدّثين في كتبهم، منها:
1.الروض الأُنف، للسهليّ ( ت 581 هـ ) 259:1.
2.المواهب اللَّدنيّة، للقسطلانيّ ( ت 926 هـ ) 72:1.
3.تاريخ الخميس، لحسين بن محمّد الديار بكريّ (ت 966 هـ ) 339:1.
4.ثمرات الأوراق ـ في هامش المستطرف ـ لابن حُجّة الحمويّ ( ت 827 هـ ) 9:2.
5.بلوغ الإرَب، للنويريّ 327:1.
6.السيرة الحلبيّة، للحلبيّ ( ت 1044 هـ ) 375:1.
7.السيرة النبويّة، لزَيني دحلان، المطبوعة في هامش السيرة الحلبيّة 93:1.
8.أسنى المطالب، لأبي الخير الدمشقيّ الشافعيّ ( ت 833 هـ ) ص 5.
قال الأمينيّ بعد نقل الوصية الشريفة هذه:
في هذه الوصيّة الطافحة بالإيمان والرشاد.. دِلالة واضحة على أنّ أبا طالب إنّما أرجأ ( أي أخّر ) تصديقَهُ ( للرسالة ) باللسان إلى هذه الآونة التي يئس فيها من الحياة؛ حذار شَنَآن قومه المستتبعِ لانثيالهم عنه، المؤدّي إلى ضعف المُنّة وتفكّك القوى، فلا يتسنّى له حينئذٍ الذَّبُّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كان الإيمان به مستقرّاً في الجنَان من أوّل يوم، لكنّه لمّا شعر بأُزوف الأجل وفوات الغاية المذكورة.. أبدى ما أجَنّتْه أضالعُه، فأوصى بالنبيّ صلّى الله عليه وآله بوصيّته الخالدة. (الغدير 367:7).