ونقول :
أ-ان من الواضح : ان الذين يسألونه عما ينجي من الوسوسهة كانوا يقولن تلك الكلمة ، ويشهدون الشهادتين ، ولكنهم كانوا – مع ذلك – مبتلين بالوسوسة فكيف يأمرهم (صلى الله عليه وآله وسلم ) بقولها للنجاة من ذلك ؟! .
إلا ان يكون المراد : كثرة التلفظ بها وتكرارها .
ولكن ربما يقال : إن ارادة هذا المعنى بعيد عن مساق الرواية .
ب-إن نفس هذه الرواية مروية بسند صحيح ، وتفيد : أن الخلاف كان بين سعد وعثمان ، وأن الذي حكم بينهما هو عمر بن الخطاب ، وذكر : دعوة ذي النون : ( لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين ) .ولم يذكر أبا طالب (71).
ج-لما مدّ أبو قحافة يده ليسلم بكى أبو بكر ، فقال له (ص) : ما يبكيك ؟ قال : لأن تكون يد عمك مكان يده ، ويسلم ، ويقر الله به عينك أحب إلي من أن يكون (72).
ونقول :
قد تقدمت هذه الرواية بنحو يدل على إيمان أبي طالب عن عدد من المصادر ، فلا نعيد .
أ-قد جاء أنه لما أسلم أبو قحافة لم يعلم أبو بكر بإسلامه ، حتى بشره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك (73)فكيف يكون أبو بكر قد قال ذلك حين مدّ يده ؟!.
ب-لما توفي أبو طالب ، جاء علي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال له: إن عمك الشيخ الضال قد توفي .
وفي رواية أن علياً رفض ما أمره به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) تغسيله ، ودفنه ، فأمر أن يتولى ذلك غيره (74).
ونقول :
أ-قد روى أحمد في مسنده هذه الرواية ، وفيها : إن عمك الشيخ قد توفي ، من دون ذكر كلمة (الضال) (75).
ولو لم يكن مؤمناً فلماذا يأمر يتغسيلة ؟.
ثم كيف يأمر علياً بتغسيلة ولا يأمر عقيلاً ، أو طالباً اللذين كانا مشركين ؟ . إلا أن يقال : إنهما لم يكونا على استعداد لإطاعته .
ب-كيف يتناسب هذا مع كونه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد حزن ، وترحم عليه ، ودعا له ، وعارض جنازته ، ومشى فيها ، مع أنهم يروون : أنه لا يجوز المشي في جنازة المشرك ؟!(76).
ج-هل صحيح : أن علياً (عليه السلام) رفض تنفيذ ما أمره به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حتى احتاج لأن يأمر بأن يتولى ذلك غيره ؟ فهل كان علي يملك نفسه متمردة كهذه النفسية ؟ حاشاه !
د-ماذا يصنع هؤلاء بما ورد عن كثير من المصادر من أن علياً عليه السلام هو نفسه قد تولى تغسيله ودفنه ، واغتسل بعد تغسيله إياه غسل المس الواجب من مس كل ميت مسلم (77).
خطابيات وأرجاز المديني :
وبعد ما تقدم ، إذا كان أبو طالب مسلماً مصدقاً ؛ فلا يصغى لأرجاز وخطابيات أمثال المديني ، غير الموافقة للعقل والدين . ولا يفيدهم تملقهم البادر ، ولا تظاهرهم بالصلاح ، حتى ليقول المديني وددت أن أبا طالب كان أسلم ، فسرّ به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأني كافر ) (78)!!.
سرّية إيمان أبي طالب :
إننا إذا تتبعنا سير الدعوة ، ومواقف أبي طالب فاننا نجد : أنه كان بادئ ذي بدء يكتم إيمانه ، تماماً كمؤمن آل فرعون ، والظاهر أنه قد استمر يظهر تارة ، ويخفيه أخرى إلى أن حُصِرَ الهاشيمون في الشعب ، فصار يكثر من اظهار ذلك .
وقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله : (إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرُّوا الايمان واظهروا الشرك ، فآتاهم الله اجرهم مرتين ) (79).
وعن الشعبي ، يرفعه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : كان والله أبو طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف مؤمناً مسلماً يكتم إيمانه ؛ مخافة على بني هاشم أن تُنَلبِذَها قريش . وكذا عن ابن عباس (80).
وقد تقدم : أن محمد بن الحنفية حمل في حرب الجمل على رجل من اهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب ، فلما عرفت الذي اراد كففت عنه (81).
وثمة أحاديث أخرى عديدة بهذا المعنى لا مجال لذكرها (82).
ولكن لا بد أن نذكر رواية أخرى ، ولعلها هي الأقرب إلى واقع الأمر ، وهي ما ذكره الشريف النسابة العلوي ، والمعروف بالموضح ، باسناده : أن أبا طالب لما مات لم تكن الصلاة على الموتى ، فما صلى النبي عليه ، ولا على خديجة ، وإنما اجتازت جنازة أبي طالب ، وعلي وجعفر(83) ، وحمزة جلوس ، فقاموا وشيعوا جنازته ، واستغفروا له .
فقال قوم : نحن نستغفر لموتانا وأقاربنا المشركين أيضاً –ظنا منهم أن أبا طالب مات مشركا ؛ لأنه كان يكتم إيمانه فنفى الله عن أبي طالب الشرك ، ونزّه نبيه ، والثلاثة المذكورين (رحمهم الله) عن الخطأ في قوله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين للمشركين ، ولو كانوا أولي قربى ) .
فمن قال بكفر أبي طالب ، فقد حكم على النبي بالخطأ والله تعالى قد نزهه عنه في أواله وافعاله الخ (84).
ضرورة سرية إيمان شيخ الأبطح :
ونستطيع أن نقول :
إن سرية إيمان أبي طالب كانت ضرورة لا بد منها ؛ لأن الدعوة كانت بحاجة إلى شخصية إجتماعية قوية تدعمها ، وتحافظ على قائدها ، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع. فتتكلم من مركز القوة لتتمكن الدعوة من الحركة ، مع عدم مواجهة ضغط كبير يشل حركتها ، ويحد من فاعليتها .
قال ابن كثير وغيره إذ لو كان أسلم أبو طالب (ونحن نقول : أسلم ، ولكنه كتم إيمانه وإسلامه) ؛ لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ، ولا كلمة ، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولا جترؤا عليه ، ولمدوا أيديهم والسنتهم بالسوء إليه ) (85).
لماذا الإفتراء على أبي طالب :
لعل ذنب أبي طالب الوحيد ، هو أنه كان أبا لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فالمستهدف بهذه النسبة الشنيعة في الحقيقة هو ولده ، الشوكة الجارحة في أعين الأمويين ، والزبيريين ، وكل أعداء الإسلام . فهم يريدون النيل من علي في كل أمر يرتبط به حتى وصلت النوبة إلى أخيه جعفر ، وابيه أبي طالب (رحمه الله) ، ثم إلى كل شيعته ومحبيه ، بل إننا لا نكاد نرى فضيلة ثبتت له بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلامية الا ولها نظير في الخلفاء الثلاثة ، ولكن بسند ضعيف عندهم على الأكثر ، والله الحمد وله الحجة البالغة .
ويقينا لو كان أبو سفيان أو أي شخص آخر ، من آباء مخالفي علي (عليه السلام) قد عمل معشار ما عمله أبو طالب ، لرأيت من الثناء العاطر عليه ، والتبجيل والتقدير ، والأحاديث في فضله ، وماله من الكرامات والشفاعات ، إن دنيا ، وإن آخرة ، ما يفوق حدّ الحصر ، ويزيد ويتضاعف باستمرار في كل مصر ، وعصر .
والغريب في الأمر :أن أبا سفيان ، أبا معاوية الذي يقول لعثمان حينما صارت إليه الخلافة : قد صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة ، واجعل اوتادها بني أمية ، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار (86) إن أبا سفيان هذا مؤمن تقي عادل ، معصوم ، وأبو طالب – أو فقل : أبو علي-كافر مشرك ، وفي ضحضاح من نار ، يبلغ كعبه ، ويغلي منه دماغه !! ما عشت أراك الدهر عجباً !!.