منتديات نور فاطمة عليها السلام - منتدى نسائي للمرأة فقط

منتديات نور فاطمة عليها السلام - منتدى نسائي للمرأة فقط (http://www.noorfatema.com/vb/index.php)
-   أهل البيت (عليهم السلام) سيرة اهل البيت - مكتبة اهل البيت - موسوعة شاملة عن أهل البيت (ع) (http://www.noorfatema.com/vb/forumdisplay.php?f=10)
-   -   الامام الحسن ..القائد و الأسوة (http://www.noorfatema.com/vb/showthread.php?t=60892)

أوراق الخريف 14-05-2012 03:03 PM

الامام الحسن ..القائد و الأسوة
 

مراجعة تاريخية سريعة:
كان الحدث الأكبر في تاريخ الإسلام هو وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وانقطاع ذلك الإشعاع السماوي الذي كان يفيض على الدنيا كلها بالخير، فإذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الأرض بموت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن السماء، إذ كان الوحي هو بريدها إلى الأرض وأداة صلتها بها.
وهل للأرض غنى عن السماء، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها.
الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله) أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فأخبرهم بأن حبلاً واحداً سيبقى متصلاً بينهم وبين السماء. وهل حبل أولى بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي، قال (صلّى الله عليه وآله):
(إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(1).
ومن حق البحث الذي بين أيدينا أن يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (صلّى الله عليه وآله)، أو موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع، لينظر فيما خلفوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في عترته، بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة.
وإذا كانت العترة عشيرة الرجل، فعليّ أبرز رجالها بعد رسول الله، وإذا كانت ذريته، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. تجيز اللغة إطلاق العترة على الصنفين، ـ العشيرة والذرية ـ معاً.
نعم إنه قدّر لهذا المجتمع، أن ينقسم انقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمى بوفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حين تأول قوم فاتبعوا تأولاتهم، وتعبّد آخرون فثبتوا على الصريح من قول نبيهم وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا مكان استعراضها.. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين لأن كل شيء ممّا نتفق عليه معهم جميعاً، أو مع فريق واحد منهم، أو ممّا نختلف فيه قد تم في حينه على صورته. وليس فيما يتناوله بحثاً الآن ما يستطيع أن يغير الواقع عن واقعه.
ولم يبق مخفياً أن الحجر الأساسي لهذا التدهور غير المنتظر، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما أبرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود ـ عمودياً ـ من السماء إلى الأرض الذي عناه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر أريد ليمتد مع التاريخ ـ أفقياً ـ وكما قال الشاعر:
وتـــوالت تحــــت السقيفة أحدا ثٌ أثــــــارت كـــــوامناً وميولاً
نزعات تفرقــت كغـــــصون ال ـعوسج الغض شائكاً مدخولاً(2)
ووقف صاحب الحق بالخلافة من المتأولين، موقف المشرف الذي دل بذاته، وبما حفظ الإسلام من الانهيار، على انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الإسلامية إلى الحق المغلوب على أمره، وأخذ إلى البيعة، بعد ذلك أخذاً(3) وسأله بعض أصحابه: (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟) فقال: (إنها كانت أثرة، شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم لله والمعود إليه القيامة. ودع عنك نهبا صيح في حجراته)(4)...
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم. وعشا عن الوزارة مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذهول.
فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره وأخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذٍ أكثر ممّا نستوعبها نحن.
ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في إحقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الإسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنّة لأنه في العقد الرابع. ولا عجب إذا رأى ذوو الحنكة المسنون، أن لا يكون الخليفة بعد رسول الله مباشرة، إلا وهو في العقد السابع مثلاً.
وخفي عليهم إن الإمامة في الإسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها.
فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات الله تعالى وتصريحات نبيه (صلّى الله عليه وآله). وكانت سن عليّ (عليه السلام) يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سن عيسى بن مريم يوم رفعه الله عز وجل، أفيجوز لعيسى أن ينتهي بقصارى نبوته في الأرض إلى هذه السن، ولا يجوز لعليّ أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها الله لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنّي الإنسان لما اختارها الله للمصطفين من عباده في الجنان.
الأمة عاشت بعيدة كل البعد عن إرشادات وتوجيهات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واشتغلت بالصراعات السياسية وحروب المناصب حتى أخذت الخلافة تنقلب من واحد إلى آخر فتفاقمت الأزمات وتدهورت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وغيرها، وظهرت علامات التذمر والتمرد في أوساط المسلمين وكل ذلك نتيجة حتمية للروح القبلية التي سادت وتحكمت بمنطق المتنافسين تحت سقيفة بني ساعدة والاتجاه الذي سار فيه هؤلاء إلى حصر السلطة بكل واحد منهم وعدم مشاركة الآخرين في الحكم، والتأكيد على المبررات الوراثية، واستعداد كثير من الأنصار لتقبل فكرة أميرين أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين، حتى كان يرى كل جناح أنه أحق من غيره بالأمر، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وغيره من الصحابة بعيدون عنهم لانشغالهم بجثمان النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي كان لم يدفن بعد(5) حين اندفع عمر بأبي بكر إلى السقيفة ليبتوا في أمر الخلافة وحين بلغ الإمام علي (عليه السلام) بالنبأ رفض البيعة(6).
واعتبرها اعتداءً صارخاً عليه، فهو يعلم أن محله من الخلافة محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير ـ على حد تعبيره ـ وما كان يظن إن القوم يزعجون هذا الأمر ويخرجونه عن أهل بيت نبيهم، فقد بادر إليه عمه العباس قائلاً له:
(يابن أخي أمدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان).
فقال له الإمام: (ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟)(7).
وعلق الدكتور طه حسين على ذلك بقوله: (نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه، أحق منه بوراثة السلطان لأنه ربيب النبي، وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن: ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك؟! ولأن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وقال للمسلمين يوماً آخر: من كنت مولاه فعليّ مولاه. من أجل ذلك أقبل العباس بعد وفاة النبي على ابن أخيه، وقال له: أبسط يدك أبايعك)(8).
لقد تخلف الإمام (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر ساخطاً، وأعلن شجاه وأساه على ضياع حقه، واستبداد القوم بالأمر من دون أن يعنوا به وفي نهجه شذرات من بليغ كلامه عرض فيها لذلك.
في سقيفة بني ساعدة تجسدت الروح القبلية التي فتحت على المسلمين باباً من أبواب الفتنة كما يصرح بذلك عمر بقوله: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنها تغره يجب أن يقتلا)(9).
ومضى زمن يجادل الإمام علي (عليه السلام) القوم ويعيد إلى ذاكرتهم ما غاب عنهم من أفعال الرسول وأقواله ومواقفه، وسرد لهم نصوص تلك الخطب والتوصيات التي تؤيّد دعواه، فالكثير تجسمت لهم الأخطار وأحسوا بالمسؤولية حيث جرفهم التيار الجديد الذي غيّر وبدّل.
والمنافقون استغلوا تلك الفترة فكانت ردة جماعة من مسلمي العرب في الجزيرة، ومسيلمة الكذاب أعلن النبوة واستغل الموقف الراهن، كما أن صدى النزاع على الخلافة تجاوز العاصمة الإسلامية فبدأ العصيان والتمرد على مبادئ الإسلام. لذا خشي الإمام علي (عليه السلام) إن استمر على محاججة القوم أن تذهب جهود النبي سدى.. فسكت عن حقه السليب ورجع إلى ما كان عليه ينشر تعاليم الإسلام متفانياً في سبيل توطيد دعائم الدين.
ورأى أن الحكمة تقضي بمبايعة الخليفة حفاظاً على الإسلام حماية لوحدة المسلمين، وفي هذا يقول: (فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد (صلّى الله عليه وآله) فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المُصيبة به على أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه).
فمصلحة الإسلام في نظره تفوق على كل شيء وقبل كل شيء. وما مطالبته بحقه في الخلافة إلا لكي يعمل بقوة على بعث الدين في النفوس.
والخلافة كما هو معلوم لا تساوي عنده شيئاً إذا لم تكن سبيلاً وطريقاً إلى هذه الغاية وهو الذي خاطب ابن عباس عندما كان يخصف نعله بيده بقوله: والله إن إمرتكم لأهون عندي من هذا النعل. إلا أن أحق حقاً وبطل باطلاً..(10).

علي والخلفاء:
في خلافة أبي بكر كان جهاز الحكم الإداري خاضعاً لإدارة عمر بن الخطاب فهو المخطط لسياسية الدولة، والواضع لبرامجها الداخلية والخارجية قد وثق به أبو بكر، وأسند إليه جميع مهام حكومته، فلم يعقد أي عقد أو يقطع أي عهد إلا عن رأيه، ومشورته، كما لم يوظف أي عامل إلا بعد عرضه عليه.
أما تعيين الولاة على الأقطار والأقاليم الإسلامية، أو إسناد أي منصب حساس من مناصب الجيش فإنّه لا يمنح لأحد إلا بعد إحراز الثقة به والإخلاص منه للحكم القائم والتجاوب مع مخططاته السياسية، فمن كانت له أدنى ميول معاكسة لرغبات الدولة، فإنّه لا يرشح لأي عمل من أعمالها ويقول المؤرخون: إن أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام، لم يكن هناك أي موجب لعزله إلا لأن عمر نبهه على ميوله لعليّ وبيّن له مواقفه يوم السقيفة التي كانت مناهضة لأبي بكر.(11) ولم يعهد أبو بكر بأي عمل أو منصب لأحد من الهاشميين، وقد كشف عمر الغطاء عن سبب حرمانهم في حواره مع ابن عباس من أنه يخشى إذا مات وأحد الهاشميين والياً على قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحب(12).
كما حرم الأنصار من وظائف الدولة، وذلك لميولها الشديد إلى علي (عليه السلام) أما عماله وولاته فقد كان معظمهم من الأسرة الأموية وهم:

أبو سفيان:
استعمله عاملاً له على ما بين آخر حد للحجاز وآخر حد من نجران(13).

يزيد بن أبي سفيان:
استعمل يزيد بن أبي سفيان والياً على الشام(14) ويقول المؤرخون انه خرج مودعاً له إلى خارج يثرب.

عتاب بن أسيد:
عين أبو بكر عتاب بن أسيد بن أبي العاص والياً على مكة(15).

عثمان بن أبي العاص:
جعله والياً على الطائف(16) ومنذ ذلك اليوم علا نجم الأمويين، واستردوا كيانهم بعد أن فقدوه في ظل الإسلام.
وأبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من حرمان بني هاشم من التعيين في وظائف الدولة ومنحها للعنصر الأموي الذي ناهض النبي (صلّى الله عليه وآله) وناجزه في جميع المواقف، يقول العلائلي:
(فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويون وحدهم، لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وآثروا في سياستها، وهم بعيدون عن الحكم كما يحدثنا المقريزي في رسالته (النزاع والتخاصم)(17).
إن القابليات الدبلوماسية والإحاطة بشؤون الإدارة والحكم، والمعرفة بشؤون الدين كانت متوفرة عند الكثيرين من المهاجرين والأنصار من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) فكان الأجدر تعيين هؤلاء في مناصب الدولة، وإبعاد الأسرة الأموية عنها لوقاية المجتمع الإسلامي من مكائدها وشرورها.
أما السياسة المالية التي نهجها أبو بكر ـ والمفروض أن تكون ـ على النهج الإسلامي الذي يستهدف إذابة الفقر، ومكافحة الحرمان وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين، بحيث لا يبقى أي ظل للبؤس والحاجة، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه.
وكان أهم ما يعني به الإسلام إلزام الولاة بالاحتياط في أموال الدولة فلم يجز لهم بأي حال أن يصطفوا منها لأنفسهم شيئاً كما لم يجز لهم أن ينفقوا أيّ شيء منها لتوطيد حكمهم ودعم سلطانهم. الطابع العام لهذه السياسة المساواة بين المسلمين في العطاء فليس لرئيس الدولة أن يميز قوماً على آخرين فإن ذلك يخلق الطبقية، ويوجد الأزمات الحادة في الاقتصاد العام، ويعرض المجتمع إلى كثير من الويلات والخطوب، ويقول المؤرخون إن أبا بكر قد ساوى في العطاء بين المسلمين ولم يشذ عما سنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذا المجال إلا أن بعض البوادر التي ذكرت تجافي ذلك فقد وهب لأبي سفيان ما كان في يده من أموال الصدقة كسباً لعواطفه التي تشترى وتباع بالأموال.(18) كما قام بتوزيع شطر من الأموال على المهاجرين والأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بقسم من المال مع زيد ابن ثابت فأنكرت ذلك وقالت:
ـ ما هذا؟
قسم قسمه أبو بكر للنساء.
أترشونني عن ديني، والله لا أقبل منه شيئاً؟!
وردت المال عليه(19) هذه بعض المؤاخذات التي ذكرها بعض النقاد لسياسته المالية.
ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه وقد صمم على تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة إلا أن ذلك لاقى معارضة الكثيرين من الصحابة فقد انبرى إليه طلحة قائلاً:
(ماذا تقول لربك: وقد وليت علينا فظاً غليظاً؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب)(20).
وسكت أبو بكر فاندفع طلحة يوالي إنكاره عليه قائلاً:
(يا خليفة رسول الله، إنا كنا لا نحتمل شراسته، وأنت حي تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه، وأنت ميت وهو الخليفة..)(21).
وبادر اكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر فقد قالوا له: (تراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا، وأنت لاق الله عزّ وجل فسائلك فما أنت قائل؟
فأجابهم أبو بكر: (لئن سألني الله لأقولن استخلفت عليهم خيرهم في نفسي..)(22) وكان الأجدر به فيما يقول المحققون أن يستجيب لعواطف الأكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحداً إلا بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه أو يستشير أهل الحل والعقد عملاً بقاعدة الشورى إلا انه استجاب لعواطفه الخاصة المترعة بالحب لعمر، وقد طلب من معقيب الدوسي أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له:
(ما يقول الناس في استخلافي عمر؟)
(كرهه قوم ورضيه آخرون.)
(الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟)
(بل الذين كرهوه)(23).
ومع علمه بأن أكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الأمر فكيف فرضه عليهم، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم.
وعلى أي حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه خوفاً من التأثير عليه، وكان يعزز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلاً:
(أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله))(24)، وطلب الله أبو بكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر، وكتب عثمان ما أملاه عليه، وهذا نصه:
(هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها. وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغيّر فالخير أردت ولا أعلم الغيب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ..)(25). ووقع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر، وانطلق به يهرول إلى المسجد ليقرأه فانبرى إليه رجل وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلاً:
(ما في الكتاب يا أبا حفص؟)
فنفى عمر عليه بما فيه إلا أنه أكد التزامه بما جاء فيه قائلاً: (لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع..).
فرمقه الرجل، وقد علم واقعه قائلاً:
ولكني والله أدري ما فيه، أمرته عام أول، وأمرك العام..)(26) وانبرى عمر إلى الجامع فقرأه على الناس، وبذلك تم له الأمر بسهولة من دون منازع إلا أن ذلك قد ترك أعمق الأسى في نفس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون يقول (عليه السلام) في خطبته الشقشقية:
(فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا، حتى ما مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان (يعني عمر) بعده، ثم تمثل بقول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جـــــابر
فيا عجباً!! بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطر أضرعيها..)(27).
وكشفت هذه الكلمات عن مدى أحزانه وآلامه على ضياع حقه الذي تناهبته الرجال، فقد وضعوه في تيم مرة وفي عدي تارة أخرى، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الإسلام، وماله من المكانة القريبة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وعلى أي حال فقد تناهبت الأمراض جسم أبي بكر، ودفعته إلى النهاية المحتومة التي ينتهي إليها كل إنسان، وقد راح يبدي ندمه وأساه على ما فرط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلاً:
(وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، ولو انهم أغلقوه على الحرب) كما إنه ودّ لو سأل رسول الله عن ميراث العمة وبنت الأخ، وثقل حاله فدخلت عليه ابنته عائشة تعوده فلما رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثل بقول الشاعر:
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فغضب أبو بكر وقال لها: ولكن قولي: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)(28).
ولم يلبث قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم، وانبرى صاحب عمر إلى القيام بشؤون جنازته، فغسله، وصلى عليه وواراه في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) وألصق لحده بلحده، ويذهب النقاد الشيعة إلى أن هذا البيت كان من تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) فإنه لم يؤثر عنه أنه وهبه لعائشة فلابد أن يكون خاضعاً لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلى هذا الرأي فلا يحل دفنه فيه إلا بعد الإذن منها، ولا موضوعية لإذن عائشة لأنها إنما ترث من البناء لا من الأرض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة وإن كان البيت خاضعاً لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أن الأنبياء لا يورثون أي شيء من متاع الحياة الدنيا وإنما يورثون الكتاب والحكمة، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين، فلابد إذن من إرضاء جماعة المسلمين في دفنه، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة.
وعلى أي حال فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة، وكان من أخطرها فيما يقول المحققون معاملة العترة الطاهرة كأشخاص عاديين قد جرد عنها إطار التقديس والتعظيم الذي أضفاه النبي (صلّى الله عليه وآله) عليها، وقد مُنيت بكثير من الضيم والجهد، فقد كانت ترى أنها أحق بمقام النبي (صلّى الله عليه وآله) وأولى بمكانته من غيرها، وقد أدى نزاعها مع أبي بكر إلى شيوع الاختلاف وإذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين، كما أدى إلى إمعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم، ولعل أقسى ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلاء التي لم ترع فيها أي حق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في عترته وأبنائه.
ومهد أبو بكر الخلافة من عبده إلى عمر فتولاها بسهولة ويسر من غير أن يلاقي أي جهد أو عناء وقد قبض على الحكم بيد من حديد، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين حتى تحاشى لقاءه أكابر الصحابة فإن درته ـ كما يقولون ـ كانت أهيب من سيف الحجاج حتى أن ابن عباس مع ماله من المكانة المرموقة والصلات الوثيقة به لم يستطع أن يجاهر برأيه في حلية المتعة إلا بعد وفاته وقد خافه وهابه حتى عياله، وأبنائه، فلم يستطع أي واحد منهم أن يفرض إرادته عليه، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض مناهج سياسته: فقد اتفقت مصادر التاريخ الإسلامي على أن عمر عدل في سياسته عن منهج أبي بكر فلم يساو بين المسلمين في العطاء وإنما ميز بعضهم على بعض وكان قد أشار على أبي بكر في أيام خلافته العدول عن سياسته فلم يقبل وقال: (إن الله لم يفضل أحداً على أحد ولكنه قال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ولم يخص قوماً دون آخرين)(29)، ولما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان قد أشار به على أبي بكر، وقال: (إن أبا بكر رأى في هذا الحال رأياً ولي فيه رأي آخر لا أجعل من قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كمن قاتل معه) وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً خمسة آلاف، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدراً أربعة آلاف وفرض لأزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، إلا صفية وجويرية فقد فرض لهما ستة آلاف فأبتا أن يقيدا بذلك وفرض للعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك وقال: (يا أبت لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، وكان له ما لم يكن لي..).
فقال له عمر: (إن أبا أسامة كان أحب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبيك.
وكان أسامة أحب إلى رسول الله منك..)(30).
وقد فضل عمر العرب على العجم، والصريح على المولى(31) وقد أدت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين، كما استدعت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم وأصولهم فنشط النسابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب أصولها(32) ممّا أدى إلى حنق الموالي على العرب، وكراهيتهم لهم، والتفتيش عن مثالهم، ظهور النعرات الشعوبية والقومية في حين أن الإسلام قد أمات هذه الظاهرة وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، والزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم حتى لا تحدث ثغرة في صفوف المجتمع.
وقد اثارت هذه السياسة موجة الإنكار عند الكثيرين من المحققين، وفيما يلي بعضهم:
يقول الدكتور عبد الله سلام: (لست أدري كيف اتخذ عمر هذا الإجراء؟ ولماذا اتخذه؟ إنه إجراء أوجد تفاوتاً اجتماعياً واقتصادياً، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين)(33).
وممن أنكر هذه السياسة الدكتور محمد مصطفى هدارة يقول: (وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثر تأثيراً خطيراً في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية إذ خلق شيئاً فشيئاً طبقة أرستقراطية غنية يأتيها رزقها رغداً دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال. ذلك أن فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين القرابة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والسابقة في الإسلام ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك المقابل الذي لا بد أن تأخذه الدولة في صورة عمل وجهاد)(34).
وأنكر ذلك الشيخ العلائلي بقوله: (هذا التنظيم المالي أوجد تمايزاً كبيراً، وأقام المجتمع العربي على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سوءا في نظر القانون (الشرعية) فقد أوجد أرستقراطية وشعباً وعامة)(35).
هؤلاء بعض الناقدين للسياسة المالية التي أنتهجها عمر، وهي حسب مقررات الاقتصاد الإسلامي لا تحمل أي طابع من التوازن الاقتصادي فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة وتضخمت الأموال الهائلة عندهم ممّا أوجب تغيير الحياة الإسلامية، وسيطرة الرأسماليين على سياسة الدولة. وتسخير أجهزتها لمصالحهم، وقيامهم بدور المعارضة لكل حركة إصلاحية أو سياسية عادلة في البلاد، وقد اشتدت تلك الزمرة في معارضة حكومة عليّ (عليه السلام) وزجت بجميع ما تملك من الوسائل الاقتصادية وغيرها لإسقاط حكمه لأن سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات ومصادرة ثرواتهم التي ابتزوها بغير حق.
وجهد عمر على فرض سلطانه بالقوة والعنف، فخافه القريب والبعيد وبلغ من عظيم خوفهم أن امرأة جاءت تسأله عن أمر، وكانت حاملاً، ولشدة خوفها منه أجهضت حملها(36) وكان شديداً بالغ الشدة، خصوصاً مع من كان يعتد بنفسه،يقول الرواة، إنه كان يقسم مالاً بين المسلمين ذات يوم، وقد ازدحم الناس عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص، وبلاؤه معروف في فتح فارس، فزاحم الناس حتى خلص إلى عمر، فلما رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرة، وقال: (لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك)، وقصته مع جبلة تدل على مدى صرامته وشدته، فقد أسلم جبلة وأسلم من كان معه، وفرح المسلمون بذلك، وحضر جبلة الموسم، وبينما يطوف حول البيت إذ وطأ إزاره رجل من فزاره فحله فأنف جبلة وسارع إلى الفزاري فلطمه، فبلغ ذلك عمر فاستدعى الفزاري وأمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك غاية التضييق، فارتد جبلة وخرج عن الإسلام وولى إلى هرقل فاحتفى به وأضفى عليه النعم، إلا أن جبلة كان يبكي أمر البكاء على ما فاته من شرف الإسلام وقد أعرب عن حزنه واساه بقوله:
تنصــرت الأشــراف من أجل لطمة وما كـان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منـــــها لجـــــاج ونخــــوة وبعــث لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمـــي لـــم تلـــدني وليتني رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخـــــاض بقفره وكنـــــت أسيراً في ربيعة أو مضر
وقد أراد عمر أن يقوده بأول بادرة تبدو منه ببرة(37) محاولاً بذلك إذلاله ويحدثنا ابن أبي الحديد عن شدة عمر مع أهله فيقول: كان إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعض على يده عضاً شديداً فيدميها)(38).
وعرض عثمان إلى شدة عمر حينما نقم عليه المسلمون، واشتدوا في معارضته فأخذ يذكرهم بغلظته وقسوته لعلهم ينتهون عنه قائلاً: (لقد وطئكم ابن الخطاب برجله، وضربكم بيده،وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم به...)(39).
ووصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد حفنة من السنين سياسة عمر ومدى محنة الناس فيها بقوله:
(فصيرها ـ يعني أبا بكر في توليته لعمر ـ في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض..)(40).
وتتجافى هذه السياسة عن سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسياسته، فقد سار بين الناس بالرفق واللين، وساسهم بالرأفة والرحمة، وكان لهم كالأب الرؤوف، وكان يشجب جميع مظاهر الرعب التي تبدو ومن بعض الناس تجاهه فقد جاءه رجل، وقد أخذته الرهبة منه، فنهره (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وقد سار (صلّى الله عليه وآله) بين أصحابه سيرة الصديق مع صديقه والأخ مع أخيه من دون أن يشعرهم بأن له أية مزية أو تفوق عليهم، وقد مدح الله تعالى معالي أخلاقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
ويقول المؤرخون: إن عمر فرض الحصار على صحابة الرسول، ولم يسمح لهم بمغادرة يثرب، فكانوا لا يخرجون إلا بإذن خاص منه، وقد خالف بهذا الإجراء ما آثر عن الإسلام في منحه الحريات العامة للناس جميعاً، فقد منحهم حرية الرأي والقول، وحرية العقيدة، وحرية العمل وجعلها من الحقوق الذاتية للإنسان، وألزم الدولة بحمايتها، ورعايتها وتوفيرها وليس للسلطة أن تقف موقفاً معاكساً أو مجافياً لها، شريطة أن لا يستغلها الإنسان في الإضرار بالغير أو يحدث فساداً في الأرض.
وسلك عمر ما سلكه أبو بكر في إبعاد الأسرة الهاشمية عن جهاز الحكم، فلم يجعل لها أي نصيب فيه، وإنما عهد إلى من ولاهم أبو بكر، فأقرهم في مناصبهم، ومن الغريب أنه لم يعين أي واحد من الصحابة النابهين أمثال طلحة والزبير، وقد قيل له: إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص، وفلاناً وفلاناً من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة؟!! فقال: أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء النفر من قريش، فإني أخاف أن ينشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد، وعلق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله:
(فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساويين في الشورى، مرشحين للخلافة! وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا..)(41).

اعتزال الإمام:
ولم يختلف المؤرخون في أن الإمام علي (عليه السلام) قد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى شديد على ضياع حقه، وسلب تراثه، فقد جهد القوم على الغض من شأنه، ومعاملته كشخص عادي غير حافلين بمواهبه، ومواقفه ومكانته من النبي (صلّى الله عليه وآله) فكان في معزل عنهم، لا يشاركهم في أي أمر من أمور الملك والسلطان، ولا يشاركونه فيها، وأعرض عنهم وأعرضوا عنه، حتى ألصق خده بالتراب، كما يقول المؤرخون، يقول محمــــد بن سليمان في أجوبـــــته عن أسئلة جعفر بن مكي عــــما دار بين علي وعثــــمان قال: (إن عليّاً دحضه الأولان ـ يعــــني الشيخين ـ وأسقطاه، وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً نسياً)(42).
ويعزوا الإمام (عليه السلام) في حديــــث له مع عبد الله بن عمر إلى أبيه جـــميع ما لاقاه من النكـــبات التي منها تقدم عثـــمان عليه(43).
وعلى أي حال فإن الإمام (عليه السلام) قد اعتزل عن الناس في عهد عمر كما اعتزلهم في عهد أبي بكر، فصار جليس بيته يساور الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسد الأرق ويفترش الأرق، ويتجرع الغصص، قد كظم غيظه فلم يتصل بأحد إلا بخلّص أصحابه الذين عرفوا واقعه، ومكانته كعمار ابن ياسر، وأبي ذر، والمقداد، وقد عكف على جمع القرآن وكتابته والإمعان في آياته.
وأجمع المؤرخون على أن عمر كان يرجع إليه في مهام المسائل التي يسأل عنها، والإمام لم يضن عليه بالجواب، إظهاراً لأحكام الله التي يجب على العلماء إذاعتها بين الناس.. وكان عمر يذيع فضل الإمام (عليه السلام) ويقول: (لولا علي لهلك عمر).
والشيء المحقق أن عمر كان في أكثر المسائل الفقهية إذا سئل عنها لم يهتد لجوابها وإنما يفزع إلى الإمام (عليه السلام) والى سائر الصحابة، وقد اشتهرت كلمته (كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال) وقال: (كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت) وقد دلّ المحقق الأميني على ذلك بما لا مزيد عليه(44).
ويروي التاريخ كثيراً من الحوادث المستعصية التي واجهت الخلفاء،والتي لم تجد لها معالجاً سوى الإمام علي (عليه السلام).
إذن كان دور الإمام علي (عليه السلام) في تلك الفترة، وهو حماية الدعوة من كل أشكال الانحراف والأخطار التي أخذت تهدد وجودها وهيمنتها، فشارك الخلفاء في تحمل المسؤولية، فكان المستشار والمرشد والقاضي والمشرّع... كان الإمام علي (عليه السلام) يردد دائماً: (والله لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولو لم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة).
واستمر أيضاً في احتضان الإسلام وتدعيم وحدة المسلمين، حتى اغتيل عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة بعد عشر سنوات من ولايته، وسارع عمر قبل وفاته إلى وضع أمر الخلافة بين ستة من الصحابة يختارون واحداً منهم، وهم علي (عليه السلام) وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص على أن يكون عبد الرحمن هو الحكم (وكان عبد الرحمن صهراً لعثمان) واجتمع الستة، وبعد التداول: وهب طلحة حقه لعثمان، والزبير لعلي، وسعد لعبد الرحمن ثم تنازل عبد الرحمن عن حقه لمن يقبل (علي أو عثمان) البيعة على سنّة الله ورسوله ورأي الشيخين فقبل عثمان، ورفض عليٌّ قائلاً: (أبايع على سنّة الله ورسوله واجتهاد رأي..).
إن مصدر التشريع في الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة نبيه، فعلى ضوئهما تعالج مشاكل الرعيّة، ويسير نظام الدولة، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع الإسلامي، على أنهما اختلفا أشد الاختلاف في النظم السياسية، فقد انتهج أبو بكر في سياسته المالية منهجاً أقرب إلى المساواة من سياسة عمر، فإنه ألغى المساواة في العطاء، وأوجد نظام الطبقية، فقدم بعض المسلمين على بعض، وشرع حرمة المتعتين متعة الحج ومتعة النساء في حين أنهما كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر، وكانت له آراؤه الخاصة في كثير من المجالات التشريعية.
فعلى أي المنهجين يسير ابن أبي طالب ربيب الوحي ورائد العدالة الاجتماعية في الإسلام.
إن ابن عوف يعلم علماً جازماً لا يخامره أدنى شك أن الإمام لو تقلد زمام الحكم لطبق شريعة الله في الأرض، وساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ولم يمنح الأسر القرشية أي جهة من الامتياز وساوى بينها وبين غيرها في جميع الحقوق والواجبات، فتفوت بذلك مصالح هذه الطبقة التي جنت على الإسلام، وجرت للمسلمين أعظم الويلات والخطوب.
إن الإمام لو وافق على الالتزام بما شرط عليه ابن عوف لما أمكنه أن يطبق أي منهج من مناهج سياسته الهادفة إلى نشر العدل بين الناس، ومن المقطوع به أن الإمام حتى لو التزم بهذا الشرط ظاهراً لحالت قريش بينه وبين تطبيق أهدافه، ولم تدع له أي مجال لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويكون خروجها عليه مشروعاً لأنه لم يف لها بوعده.
وعلى أي حال فإنّ عبد الرحمن لما يئس من تغيير اتجاه الإمام انبرى إلى عثمان فشرط عليه ذلك فسارع إلى إجابته، وأظهر استعداده الكامل لكل ما شرطه عليه وفيما أحسب أن هناك اتفاقاً سرياً بينهما أحيط بكثير من الكتمان فإنه بأي حال لا ينتخب الإمام وإن أجابه إلى ما شرط عليه. وإنما طلب منه البيعة لأجل التغطية على مخططاته فاستعمل هذه المناورة السياسية، ويرى بعض المؤرخين من الإفرنج أن عبد الرحمن استعمل طريقة المداورة والانتهازية، ولم يترك الانتخاب يجري حراً. يقول المؤرخون: إن عبد الرحمن بادر إلى عثمان فصفق بكفه على يده وقال له:
(اللّهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان..). ووقعت هذه المبادرة كصاعقة على القوى الخيرة التي جهدت على أن يسود حكم الله بين المسلمين، وانطلق الإمام صوب ابن عوف فخاطبه قائلاً:
(والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم..)(45).
وألقى الإمام الأضواء على اختيار عبد الرحمن لعثمان من أنه لم يكن من صالح الأمة وإنما كان وليد الأطماع والأهواء السياسية فقد رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد عثمان، واتجه الإمام صوب القرشيين فقال لهم:
(ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصنعون).
ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدده (يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً)(46) وغادر الإمام المظلوم المهتضم قاعة الاجتماع، وهو يقول: (سيبلغ الكتاب أجله ـ إذن عارض ـ الإمام (عليه السلام) نتائج المسرحية، ولما لم تكن الظروف ملائمة للتحرك السلبي، إذ لا يزال الخطر يحدق بالإسلام، سكت عن حقه، مكتفياً بتسجيل موقفه المبدئي بقوله: (إن لنا حقّاً إن نعطه أخذناه، وإن نُمنعه نركب أعجاز الإبل).
ولم تتغير سياسة الإمام علي (عليه السلام) في التوجيه والنصح والتقويم كما كانت في السابق، ولكن الأوضاع الآن قد ساءت إلى حدّ كان يُنذر بالثورة لأن عثمان كان ضعيف الإرادة خائر العزيمة، فلم تكن له أية شخصية قوية متماسكة يستطيع بها أن يفرض آراءه وإرادته، كما لم تكن له أية قدرة على مواجهة الأحداث والتغلب عليها، قد أخذ الأمويون بزمامه، واستولوا على جميع مقدرات حكومته، لم يستطع أن يقف موقفاً إيجابياً يتسم بالصلابة ضد رغباتهم، وأهوائهم، فكان بالنسبة إليهم ـ فيما يقول بعض المؤرخين ـ كالميت في يد الغاسل، وكان الذي يدير شؤون دولته مروان بن الحكم، فهو الذي يعطي ما يشاء ويمنع من يشاء ويتصرف في مقدرات الأمة حسب ميوله من دون أن يعنى بأحكام الإسلام، ولا رأي لعثمان، ولا اختيار له في جميع الأحداث التي تواجه حكومته، فقد وثق بمروان واعتمد عليه، وأناط به جميع شؤون الدولة، يقول ابن أبي الحديد نقلاً عن بعض مشايخه: إن الخليفة في الحقيقة والواقع إنما كان مروان وعثمان له اسم الخلافة. إن قوة الإرادة لها الأثر التام في تكوين الشخصية واستقامتها، فهي تكسب الشخص قوة ذاتية يستطيع أن يقف بحزم أمام التيارات والأعاصير التي تواجهه في هذه الحياة، ومن المستحيل أن يحقق الشخص أي هدف لأمته ووطنه من دون أن تتوفر فيه هذه النزعة، وقد منع الإسلام منعاً باتاً أن يتولى ضعيف الإرادة قيادة الأمة، وخطر عليه مزاولة الحكم لأنه يعرض البلاد للويلات والخطوب، ويغري ذوي القوة بالتمرد والخروج من الطاعة وتمنى الأمة بالأزمات والأخطار. ووصفه بعض المؤرخين بالرافة والرقة واللين والتسامح إلا أن ذلك كان مع أسرته وذويه أما مع الجبهة المعارضة لحكومته فقد كان شديد القسوة، فقد بالغ في إرهاقهم واضطهادهم، وقابلهم بمزيد من العسف والعنف، فنفى الصحابي أبا ذر الغفاري (رضي الله عنه) من يثرب إلى الربذة، وفرض عليه الإقامة الجبرية في مكان انعدمت فيه جميع وسائل الحياة، حتى مات طريداً غريباً، ونكل بالصحابي العظيم عمار بن ياسر فأمر بضربه حتى أصابه فتق، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه، وأوعز إلى شرطته. بضرب القارئ الكبير عبد الله بن مسعود فألهبت جسمه سياطهم وألقوه في الطريق بعد أن هشموا بعض أضلاعه، وحرم عليه عطاءه، وهكذا اشتد في القسوة مع أعلام المعارضة.
نعم كان شديد الرأفة والرقة بأرحامه من بني أمية وآل أبي معيط فمنحهم خيرات البلاد وحملهم على رقاب الناس، وأسند إليهم جميع المناصب الحساسة في الدولة.
وظاهرة أخرى من نزعات عثمان هو انه كان شديد القبلية فقد أترعت نفسه بالعواطف الجياشة تجاه قبيلته، حتى تمنى أن تكون مفاتيح الفردوس بيده ليهبها لبني أمية، وقد آثرهم بالفيء، ومنحهم الثراء العريض، ووهبهم الملايين من أموال الدولة، وجعلهم ولاة على الأقطار والأقاليم الإسلامية وكانت تتواتر لديه الأخبار بأنهم جانبوا الحق وظلموا الرعيّة، وأشاعوا الفساد في الأرض فلم يعن بذلك ولم يفتح معهم أي لون من ألوان التحقيق ورد الشكاوى الموجهة ضدهم...
وكان معروفاً عن عثمان بأنه كان يميل إلى الترف والبذخ ولم يعن ببساطة العيش والزهد في الدنيا كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ففتن بالبذخ والترف فاتخذ القصور، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال وأحاط نفسه بالثراء العريض من دون أن يتحرج في ذلك، ووصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه) وكان ذلك من موجبات النقمة عليه. هذه بعض نزعات عثمان، وقد أوجبت إخفاقه وفشله في الميادين السياسية، وإذاعة التذمر والنقمة عليه.
إزاء هذا الوضع المتردي عمل الإمام علي (عليه السلام) باتجاهين:
1ـ النصح لعثمان وتحذيره من سياسة ولاته وأقاربه.
2ـ تهدئة المعارضة كي تتخلى عن العنف إلى اللين والمرونة.
واجتمع الإمام (عليه السلام) بعثمان مرات عديدة، وفي كل مرة كان ينصحه: ليكفّ أيدي الولاة المنحرفين، ويقيم العدل ويحقق المساواة، وبالتالي يحذره من العواقب الوخيمة المنتظرة... ولكن كل ذلك لم يجد أذناً صاغية، فبقيت الأمور على حالها. عندها، وفي المرة الأخيرة، ودع الإمام (عليه السلام) عثمان قائلاً: (ما يريد عثمان أن ينصحه أحد.. اتخذ بطانة غش، ليس منهم أحد إلا وقد تسيب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذل أهلها).
ولما لم تجد النصائح والأصوات المعارضة.. تفجرة الثورة. وأحاط الثائرون ببيت عثمان، وعلم عثمان أن لا ملجأ له إلا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاستغاث به، وطلب منه أن يدعو القوم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فأجابه إلى ذلك بعد أن أخذ منه المواثيق على الوفاء بعهده، ومضى الإمام إلى الثوار وهو يحمل الضمان لجميع مطالبهم..
ولكن عثمان نقض ما قطعه على نفسه، ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ويقول المؤرخون إن السبب في ذلك أن مروان الذي كان مستشاراً له ووزيراً، قد دخل عليه فلامه على ما صنع قائلاً:
(تكلم واعلم الناس أن أهل مصر(47) قد رجعوا، وإن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً، فإن خطبتك تسير في البلاد، قبل أن يتحلب الناس عليك من أمصارهم فيأتيك من لا يستطيع دفعه..) وامتنع عثمان عن إجابته لأنه دعاه لأن يناقض نفسه، وأن يقول غير الحق ولكنه ما زال به يحذره مغبة ما صنع، ويخوفه عاقبة الأمور، ولم تكن لعثمان إرادة صلبة، ولا عزم ثابت، فكان ألعوبة بيد مروان فاستجاب له، واعتلى المنبر فخاطب الناس قائلاً:
(أما بعد: إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم..) وانبرى المسلمون إلى الإنكار عليه، وناداه عمرو بن العاص: (اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت نهابير(48) وركبناها معك فتب إلى الله نتب معك).
فصاح به عثمان: (وإنك هنا يا ابن النابغة؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل؟) وارتفعت أصوات الإنكار من جميع جنبات الحفل وهي ذات لهجة واحدة. (اتق الله يا عثمان) (اتق الله يا عثمان). وانهارت أعصابه، وتحطمت قواه فحار في الجواب، ولم يجد بُداً من أن يعلن التوبة مرة أخرى عما اقترفه، ونزل عن المنبر، وهو خائر القوى، ومضى إلى منزله(49).
ولما تبين للثوار أنه لم يقلع عن سياسته، وإنه جاد في سيرته لا يغير منها ولا يبدل أحاطوا به، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فلم يستجب لهم ورأى أن يستنجد بمعاوية(50) ليبعث له قوة عسكرية تحميه من الثوار، وقد كتب إليه هذه الرسالة:
(أما بعد: فإن أهل المدينة قد كفروا، وخلعوا الطاعة، ونكثوا البيعة فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول)(51)، وحمل الكتاب مسور بن مخرمة، لما قرأه معاوية قال له مسور: (يا معاوية: إن عثمان مقتول فانظر فيما كتب به إليك..). وصارحه معاوية بالواقع وبما انطوت عليه نيته قائلاً: (يا مسور: إني مصرح أن عثمان بدأ بما يحب الله ورسوله ويرضاه ثم غيّر فغير الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل)(52) ولم يستجب معاوية له، وكان فيما يقول المؤرخون: يترقب مصرعه ليتخذ من دمه وسيلة للظفر بالملك والسلطان، وقد تنكر لألطافه واياديه عليه وعلى أسرته، يقول الدكتور محمد طاهر درويش:
(وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية، ودمه في عنقه، ومسؤوليته عن ذلك لا تدفع، فهو أولى الناس به، وأعظم الرجال شأناً في دولته، وقد دعاه فيمن دعا، يستشيره في هذا الأمر وهو داهية الدهاة فما نهض إليه برأيه، ولا دافع عنه بجنده، وكأنه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته فترك الأيام ترسم بيدها مصيره، وتحدد نهايته فإذا جاز لأحد أن يظن بعليّ أو بطلحة والزبير وغيرهم تقصيراً في حق عثمان فمعاوية هو المقصر، وإذا جاز أن يُلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم..)(53).
وعلى أي حال فإن معاوية لما أبطأ عن إجابته، بعث عثمان رسالة إلى يزيد بن كرز والي أهل الشام يستحثهم على القدوم إليه لإنقاذه من الثوار ولما انتهى إليهم كتابه نفروا إلى إجابته تحت قيادة يزيد القسري إلا أن معاوية أمره بالإقامة بذي (خشب) وأن لا يتجاوزه فأقام الجيش هناك حتى قتل عثمان.
وكتب عثمان رسائل أخرى إلى أهل الأمصار والى من حضر الموسم في مكة يطلب منهم القيام بنجدته إلا أنهم لم يستجيبوا له لعلمهم بالأحداث التي ارتكبها.
وأحاط به الثوار فمنعوا عنه الماء والطعام، وحاصروه، وهو مصر على سياسته لم يقلع عنها، وقد أترعت النفوس بالحقد والكراهية له، وقد جنى هو على نفسه لإطاعته لمروان، وانصياعه لرغبات بني أمية، وألقي عثمان جثة هامدة على الأرض، لم يسمح الثوار بمواراته، وقال الصفدي: إنهم ألقوه على المزبلة ثلاث أيام(54)، مبالغة في تحقيره وتوهينه وتكلم بعض خواصه مع الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ليتوسط في شأنه مع الثوار في دفنه، فكلمهم الإمام فأذنوا في دفنه(55). ودفنوه في حش كوكب(56) ولم يرضى الأنصار دفنه في مقابر المسلمين(57) وعلى أي حال فقد كانت الثورة على عثمان ثورة اجتماعية لا تقل شأناً عن أنبل الثورات الإصلاحية التي عرفها التاريخ فقد كانت تهدف إلى الحد من سلطة الحاكمين، ومنعهم من الاستبداد بشؤون الناس، وإعادة الحياة الإسلامية إلى مجراها الطبيعي.

حكومة الإمام علي (عليه السلام):
بعد مقتل عثمان، توجهت أنظار الثوار إلى الإمام علي يطلبون منه أن يلي الحكم، خاصة بعد تدهور مجمل أوضاع المسلمين وبدأوا يفكرون بصورة جدّية في اختيار القيادة الإسلامية الشرعية القادرة على إدارة شؤون الدولة الإسلامية والتي أوصى بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجاء إجماع المسلمين على انتخاب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ولاة الأمة.
ومع أن هذا الإجماع جاء متأخراً ربع قرن حينما تغافلت جماهير الأمة أحاديث ووصايا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حق علي (عليه السلام) في ولاية أمور المسلمين.
وجاء الناس بعد مقتل عثمان إلى الإمام (عليه السلام) وقد اجتمعوا من كل مصر ليبايعوا الإمام علي (عليه السلام) وكان الإمام (عليه السلام) يتهرب منهم، وهم يتعقبونه ويصرّون عليه بقبول البيعة، واستمرت الحالة بين رفض الإمام (عليه السلام) وإصرار الجماهير لعدة أيام.
فالإمام (عليه السلام) كان يدرك نتيجة لوعيه العميق للظروف الاجتماعية والنفسية التي كانت تجتاح المجتمع الإسلامي في ذلك الحين، ولأن المدّ الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية(58).
ومن هنا كان رفض الإمام (عليه السلام) وامتناعه عن الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه بقبوله الخلافة، فقد أراد أن يضعهم أمام اختبار يكتشف به مدى استعدادهم لتحمل أسلوب الثورة في العمل لئلا يروا فيما بعد أنه استغفلهم واستغل اندفاعهم الثوري حين يكتشفون صعوبة الشروط التي يجب أن يناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلها)(59).
ولهذا أجابهم الإمام (عليه السلام) بقوله: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب عاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير)(60).
ولم يجد الإمام (عليه السلام) بداً ـ بعد انثيال الناس لمبايعته خليفة على المسلمين، فاستجاب لرغبة الناس وقبل الخلافة دونما إرادة منه.. وقد صوّر الإمام (عليه السلام) تدافع الناس وهم يلتمسون منه القبول في تحمل مسؤولية الإنقاذ فيقول (عليه السلام): (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم..) ولكنه (عليه السلام)، يذكر في نهاية خطبته جملة بعنوان اتمام الحجة، فيقول: (واعلموا إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم): أي إذا استلمت زمام الخلافة فإني سوف أقودكم وفق علمي، واجتهادي، وليس وفق ما تريدونه أنتم.
وكان آخر ما قاله لهم في تلك الخطبة أيضاً؛ (وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)(61) هذه الكلمات التي صدرت من علي (عليه السلام)، تبين أنه كان يتوقع مشاكل كثيرة، تحدث في عهد خلافته، وهي من التعقيد والغموض بحيث علم بأنه سوف يصعب على الناس في كثير من الأحداث المقبلة، أن يتقبلوا أوامر القيادة الشرعية، ويتفهموها، وكان هذا هو السر في كراهته لقبوله الخلافة، وقد حدث ما توقعه الإمام (عليه السلام) فيما بعد فماذا كانت المشاكل التي واجهها (عليه السلام)؟

مشكلات الإمام علي (عليه السلام):
أذكر فيما يلي بعضاً من هذه المشاكل، بصورة سريعة، ومجملة، لكي أصل إلى مشكلة المشاكل، وكبرى المعضلات التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي مشكلة الخوارج(62) فأفصّل الكلام فيها بعض الشيء.

1ـ مشكلة مقتل عثمان (مشكلة النفاق):
إن أولى المشاكل التي وقعت، والتي قال علي (عليه السلام) بشأنها أن هناك مستقبلاً مظلماً ينتظر المسلمين وهي ذيول حادثة مقتل عثمان، حيث استلم علي (عليه السلام) الخلافة، في وضع غير عادي، فقد قتل الثوار الغاضبون، الخليفة السابق، ولم يسمحوا حتى بدفنه(63)، ثم انضم الثوار إلى صف علي (عليه السلام)، فماذا كان رأي بقية المسلمين؟
بالطبع لم يكن عامة الناس يفكرون كما يفكر الثوار...
كما أن عليا (عليه السلام) نفسه، لم يكن تفكيره ينسجم، لا مع الثوار ولا مع مخالفيهم ولا مع عامة الناس...
فكانت النتيجة أن نفذ الثوار تهديدهم، دون أن يكون لعلي يد في ذلك(64). إن عليا (عليه السلام)، كان يعلم أن مقتل عثمان سوف يصبح مسألة توجب إثارة الفتنة(65)، خصوصاً عند الالتفات إلى نكتة مهمة كشف عنها مؤخراً علماء الاجتماع، والمؤرخون المحققون الذين طالعوا تاريخ الإسلام بدقة وتمعن، ونلاحظ أن نهج البلاغة ـ أيضاً ـ قد أشار إلى هذه المسألة، وهي أن بعض المؤيدين لعثمان كان لهم ـ أيضاً ـ يد في قتله(66)، فكانوا يريدون أن يقتل عثمان لكي تقوم فتنة في عالم الإسلام، فيصطادون صيدهم في المياه العكرة.
وكان لمعاوية على الخصوص يد قوية في مقتل عثمان، فعمل في الخفاء على أن تستعر نار هذه الفتنة، ليستفيد هو بالتالي، من قتل الخليفة في تحقيق أطماعه ومآربه.
وهنا أريد أن أركز على نقطة هامة في هذه المشكلة التي واجهها علي (عليه السلام)، وهي أنه نجد تفاوتاً واضحاً بين مخالفيه، ومخالفي النبي (صلّى الله عليه وآله) في زمانه: فالنبي (صلّى الله عليه وآله) كان يواجه مجموعة من الكفار وعبدة الأوثان، وكانوا يحاربونه تحت شعار الوثنية، فكانوا ينكرون الله والتوحيد علناً، وكان أبو سفيان يصرّ على شعار (اعلُ هبل!)(67) فسهل على الرسول (صلّى الله عليه وآله) مواجهتهم ومقاومتهم بهذا الشعار الواضح (الله أعلى وأجل).
أما علي (عليه السلام) فكان يواجه طبقة من العلماء المنافقين(68)، يتظاهرون بالإسلام ولكنهم لم يكونوا في الحقيقة مسلمين، فكانت شعاراتهم شعارات إسلامية: وأهدافهم ضد الإسلام.
وكان معاوية بن أبي سفيان مثل أبيه، يملك الروح السفيانية نفسها، والأهداف الشيطانية ذاتها، ولكن تحت شعار الآية القرآنية: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)(69).
صحيح أن هذا الشعار، شعار جميل، ولكن ألاّ يوجد من يسأل معاوية: من هو ولي الدم الشرعي بالنسبة لعثمان؟ إن نسب معاوية لا يتصل بنسب عثمان، إلا بأربعة أظهر صاعدة، أي أنهما يشتركان في الجد الرابع في حين أن عثمان له أولاد وأرحام أقرب إليه من معاوية، فكيف يتخطاهم معاوية جميعاً، وينصب نفسه ولياً للدم؟ ثم ما هي علاقة علي (عليه السلام) بمقتل عثمان؟ ليس لعلي (عليه السلام) أي يد في قتله ولكن شخصاً مخادعاً، مخاتلاً، مثل معاوية، لا يهمه كل ذلك، إنه يريد فقط أن يستغل الحادثة لصالحه، بأي صورة كانت.
وكان معاوية قد أوعز في وقت سابق إلى عيونه وجواسيسه، الذين بثهم حول عثمان، بأن يرسلوا إليه فوراً ثوب الخليفة الملطخ بالدم عندما يسقط صريعاً.
وفعلاً ما إن قتل عثمان، حتى قاموا بتنفيذ الأمر، قبل أن يجف دم القتيل وبعثوا بالثوب الملطخ مع أصابع امرأة عثمان إلى معاوية على جناح السرعة. وما أن استلم معاوية ثوب الخليفة، والأصابع المقطوعة، حتى بدأ يلعب لعبته، فأمر أن تعلق أصابع امرأة عثمان إلى جانب منبره، وشرع في الصباح: (يا أهل الشام، قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، ألّب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه...)(70) وجلس هناك يصرخ ويبكي على الخليفة المظلوم! وظل مدة في الشام على هذا الحال، يقرأ التعازي على روح عثمان، ويستدر دموع الناس عليه، كما يعبئهم للمطالبة بدمه.
فيا ترى، ممن يزعمون أن يطلبوا بدم عثمان؟!
إن مؤامرة معاوية تقضي بأن يطلبوا دم عثمان من علي (عليه السلام)، لأنه بزعمهم شريك للقتلة في دم الخليفة، والدليل على ذلك، أن الثوار الذين هجموا على بيت عثمان، وقتلوه، يقفون الآن في صف علي، ويؤلفون قسماً من جيشه وعساكره!!
هذه هي المشكلة المفتعلة التي اتخذت من قبل أشخاص مغرضين ذريعة لإشعال نار حربين عظيمتين: (الجمل) و(صفين).

2ـ التشدد في إجراء العدالة:
وهناك مشكلة أخرى واجهها علي (عليه السلام)، تتعلق من جهة بأسلوبه في الحكم، ومن جهة أخرى بالتغيير الذي تعرض له المجتمع الإسلامي إبان خلافة (الثلاثة): وهي أنه (عليه السلام)، كان رجلاً صلباً، لا يلين في تطبيق أحكام الإسلام.
فبعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولسنوات عديدة، تعود المسلمون شيئاً فشيئاً على مسألة إعطاء الامتيازات للأفراد المقربين من الخليفة، والسلطة الحاكمة، ولكن عليّاً (عليه السلام)، أبدى تصلباً شديداً إزاء هذه المسائل، وكان يقول: (... فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق)(71)، حتى إن أصحابه جاءوا إليه يوماً وقد عاتبوه على التسوية في العطاء، فقال لهم: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير)(72). أي تطلبون مني أن أسعى لتحقيق أهدافي بالظلم، وغمط حقوق الناس؟ كلا لن يكون مني هذا أبداً، وإن طال الزمان.

3ـ الصراحة والصدق في السياسة:
والمشكلة الثالثة التي واجهها علي (عليه السلام)، في عهد خلافته، هي مسألة صدقه وصراحته في مجال الحكم والسياسة، ولم يستحسن ذلك أيضاً بعض أصحابه، وقالوا في ذلك: إنّ هذا غير معقول، لأن السياسة لا تتطلب هذا القدر من الصراحة والعفوية، ولا بد أن يشوبها شيء من المراوغة، والدّهاء لأن ذلك بمثابة ملح السياسة حتى أن بعضهم قالوا: إنّ عليّاً ليس عنده سياسة أصلاً، على العكس من معاوية الذي هو في نظرهم سياسي داهية، فكان علي (عليه السلام) يقول: (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية القدر، لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)(73).
فالتقوى هي التي حالت بينه (عليه السلام)، وبين أن يخوض مع الخائضين في المؤامرات والألاعيب السياسية الماكرة، ودفعته إلى الالتزام بالصدق، والاستقامة في كل مجالات الحياة، حتى في السياسة والحكم.
وقد يفهم من العبارة الأخيرة: (ولكل غادر لواء) أن الإمام يقصد تحذير الناس من الانخداع والسير، وراء الحاكم الغادر الفاجر، وإلا حشدوا تحت لوائه يوم القيامة، ويا له من مصير سيئ!

4ـ الخوارج(74): مشكلة علي (عليه السلام) الرئيسية:
الخوارج الذين انفصلوا عن خط الإمام علي (عليه السلام) وخرجوا عليه في صفين، وأصبحوا فرقة تدعى بالخوارج(75).
ثم إنهم عملوا ما في وسعهم لإيذاء الإمام والإساءة إليه، ولكن الأمير (عليه السلام) استعمل أقصى حد ممكن من المواراة معهم. ما دام أنهم لم يشهروا السيف، حتى أنه لم يقطع حقوقهم في بيت المال، ولم يقيد حرياتهم. وكانوا يأتون إليه أمام الناس، ويتجاوزون بحضرته إلى حدّ توجيه الإهانات الوقحة، ولكنه (عليه السلام) كان يعتصم بالحلم، ولا يرد عليهم.
فمثلاً بينما كان الإمام (عليه السلام) يوماً على المنبر يخطب، كان أحد هؤلاء يثير الصخب والضجيج ويصدر أصواتاً غير مهذبة.
وفي يوم آخر سأله أحد الناس مسألة، فأجابه بجواب بليغ أثار تعجب الحاضرين واستحسانهم، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، ولكن خارجياً كان بينهم فقال: (قاتله الله ما أفقهه!) فأراد أصحاب علي (عليه السلام) أن ينقضوا عليه، فقال لهم الإمام: رويدكم، ماذا تريدون منه؟ إنه سبني ولكم فقط أن تردوا عليه سبابه لا أكثر. اتركوه وشأنه.
وفي يوم ثالث، كان علي (عليه السلام) منشغلاً بالصلاة، والناس يصلون خلفه (طبعاً لم يكن الخوارج يقتدون به، لأنهم سبق أن أفتوا بكفره)، وبينما كان يقرأ الحمد والسورة جاء أحدهم، ويدعى (ابن الكوا) وأخذ يقرأ هذه الآية بصوت عال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(76).
فكان يريد أن يقول: يا عليّ، نحن نقر بأنك أول من دخل في الإسلام، ونعترف بأن لك سوابق عظيمة، وخدمات جليلة للدين، وأنك من المجتهدين في العبادة... ولكن لأنك كفرت، وجعلت لله شريكاً (إشارة إلى مسألة التحكيم) لقد حبط عملك، وليس لك أجر عند الله!!
فماذا كان من علي (عليه السلام)؟ إنه ما إن بدأ الخارجي بتلاوة هذه الآية حتى توقف الإمام (عليه السلام) عن القراءة، عملاً بالآية الكريمة: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(77). ولما انتهى من التلاوة، عاد الإمام إلى قراءته، وهكذا ظل الخارجي يكرر الآية، وفي كل مرة، كان الإمام (عليه السلام) يسكت وينصت، ثم كان يعود ويواصل.
وفـــي المرة الرابعـــة: واصل الإمام صلاته، ولم يلتـــفت، وقــــرأ هذه الآية، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ)(78).
هل اقتنع الخوارج بهذا القدر من الإيذاء؟ كلا، ولو كانوا فعلوا لما كانوا مشكلة كبيرة بالنسبة إلى علي (عليه السلام). ولكننا نراهم أخذوا يتجمعون شيئاً فشيئاً، حول بعضهم، وشكلوا حزباً، بل فرقة إسلامية منشقة (عندما أقول إسلامية، لا أعني أنهم في الواقع جزء من المسلمين، فهم في نظرنا كفار خرجوا عن الدين)(79)، وابتدعوا مذهباً جديداً في الإسلام، واصطنعوا لمذهبهم أصولاً وفروعاً.
وأخذ أمر الخوارج يستفحل أكثر فأكثر، إلى أن وجد الإمام (عليه السلام) نفسه مضطراً إلى أن يضرب معسكراً في مقابلهم، وكان عددهم قد بلغ حوالي اثني عشر ألفاً، وأصبحوا يشكلون خطراً جدياً، بحيث لا تجوز المهادنة معهم، وإرخاء الحبل لهم، أكثر من ذلك.
وأرسل إليهم ابن عباس مندوباً عنه، يناقشهم ويفاوضهم، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئاً معهم، وعاد خالي الوفاض(80).
فذهب إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه، وكان حديثه معهم مؤثراً، بحيث أن كثيراً منهم ندموا على عملهم، وطلبوا قبول توبتهم، فأمر علي (عليه السلام) بنصب راية أمام معسكره، وأعلن أن كل من يأوي من الخوارج إلى هذه الراية، فهو في أمان. وكان الذين رجعوا، وتجمعوا تحت راية الأمان، ثمانية آلاف رجلاً منهم، أما الأربعة آلاف الباقون، فأصروا على موقفهم، وأعلنوا استحالة رجوعهم عن عقيدتهم.
وعند ذاك شنّ عليهم الإمام بجيشه هجوماً عنيفاً، وأعمل فيهم السيف، برغم كونهم من العابدين والزاهدين، والمصلين الخاشعين، الذين كثرت الثفنات والقروح في أيديهم، وجباههم، من كثرة السجود وظل يضرب منهم الرقاب إلى أن أتى عليهم جميعاً، ولم ينجُ منهم إلا أقل من عشرة أشخاص، بينهم عبد الرحمن بن ملجم.
وهنا لابدّ من وقفة نتأمل فيها هذا الموقف الخطير الذي اتخذه الإمام تجاه هذه الفرقة الضالة، وهل أن اتخاذ مثل هذا الموقف، أمر ميسور لشخص آخر غير الإمام علي (عليه السلام)؟
إن عامة المسلمين آنذاك، وخصوصاً الذين كانوا يقاتلون تحت لواء علي (عليه السلام) كانوا ينظرون إلى أفراد هذه الفرقة على أنهم من المسلمين وإن اختلافهم مع القيادة لا يخرجهم من حظيرة الإسلام، سيما وأنهم أهل عبادة، وزهادة وآثار القداسة بادية على محاياهم، وهم يحرمون على أنفسهم حتى الصغائر ويتعصبون للدين بشكل يصعب على أي أحد ليس عنده بصيرة حادة، وبصر نافذ، أن يحكم عليهم بالكفر، ويجوز قتلهم.
وفي الواقع لا يمكن أن يتجرّأ أحد على قتل أفراد مسلمين متدينين، لا يفارق ذكر الله، وقراءة القرآن، شفاههم، إلا نوعان من الناس:
النوع الأول: أناس لا يعتقدون بالله واليوم الآخر، ولا بالإسلام، مثل جماعة يزيد، الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
النوع الثاني: أناس يملكون من العلم والبصيرة، ما يتمكنون به من اختراق ستار القداسة والجلالة، ليصلوا إلى الجوهر الخبيث الكافر.
هذا النوع ينحصر في فرد واحد، وهو شخص الإمام علي (عليه السلام).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في نهج البلاغة: (أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليه أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها...)(81).
يقول (عليه السلام) بافتخار: أنا الذي وجهت ضربة قاصمة للخوارج، ولم يكن أحد غيري يملك الجرأة على تصفية أولئك المنشقين، وإخماد فتنتهم، وقد تمّ هذا الأمر كما يقول الإمام (عليه السلام): (بعد أن ماج غيهبها، واشتد كلبها..).
والشق الأول من هذه العبارة: يشير فيه إلى ظلمات الشبهات والشكوك التي ترسل أمواجها بين المسلمين لتغمرهم، وتجعل هذا الأمر ملتبساً عليهم، بحيث لا يتمكنون أن يخرجوا من دائرة الحيرة والتردد في أمر هؤلاء.
والشق الثاني: يشير فيه إلى إشعار هذه الفتنة، وقابليتها الكبيرة للانتشار بين المسلمين، باحتكاكهم مع هؤلاء، تماماً مثل انتشار مرض الكلب بين الذين يحتكون مع الكلاب المسعورة.
فكما أن كل من يرى كلباً مسعوراً، يعطي لنفسه الحق بأن يقتله، حتى لا يعض الآخرين ويسعرهم، فإن الإمام (عليه السلام) يقول:
لقد رأيت هؤلاء الكلاب المسعورة، فأدركت خطرهم على الإسلام، والمسلمين حالياً، وعلى مرّ العصور والأجيال، ورأيت أن لا مفر من إعدامهم وإلا فإنهم سرعان ما ينقلون مرضهم إلى غيرهم، ومن ثم يغرقون المجتمع الإسلامي في بحار الحماقة والجهل، والجمود، والتحجر الفكري.

5ـ مشكلة الفساد المالي والإداري والحقوقي
تسلّم الإمام (عليه السلام) الحكم في مجتمع ورث الفساد وكانت تنتظره مشاكل معقدة كثيرة على مختلف الأصعدة، فعمل الإمام (عليه السلام) بسياسته الثورية الجديدة التي قرر أن يتبعها من أجل تحقيق الأهداف التي قبل الحكم لأجلها.
وقد تناولت سياسته الثورية ثلاثة ميادين هي:
1ـ الميدان الحقوقي.
2ـ الميدان المالي.
3ـ الميدان الإداري.
وقد أثيرت ـ مع الأسف ـ حول سياسة الإمام (عليه السلام) وإصلاحاته الكثير من الشكوك والأحكام المرتجلة(82).. ففي:

الميدان الحقوقي:
تناولت إصلاحاته في المجال الحقوقي إلغاء مبدأ التفاضل في العطاء، وإعلان مبدأ المساواة الذي يساوي فيه كل المسلمين ويعتبرهم سواء في الحقوق والواجبات.
فجاء قوله (عليه السلام): (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه)(83).

الميدان المالي:
وركز من خلاله على نقطتين مهمّتين:
أولاً: الثروات غير المشروعة التي تكونت أيام عثمان.
ثانياً: أسلوب توزيع العطاء التفضيلي.
حتى أن الإمام (عليه السلام) صادر جميع ما أقطعه عثمان من القطائع وما وهبه من الأموال العظيمة لطبقة الأرستقراطيين، وعالنهم بسياسته في توزيع المال بقوله: (أيها الناس إني رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمره، إلا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك الإماء وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق)(84).
ولعل قادة الطبقة الثرية فكرت في مساومة الإمام علي (عليه السلام) على بذل طاعتهم له على أن يغض عما سلف منهم، فأرسلوا إليه الوليد بن عقبة بن أبي معطي، وقال له: (يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً ونحن أخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المــــال أيام عثمان وأن تقــــتل قتلته وإنا إن خفــــناك تركناك فالتحقنا بالشــــام)(85).
أما الإمام علي (عليه السلام) فأكد لهم في خطبة له بكل وضوح على عزمه في مواصلة تطبيق المنهج الذي بدأ به فقال: (فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثره، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلما، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء(86).

وأما في الميدان الإداري:
فقد باشر الإمام (عليه السلام) سياسته الإدارية بعملين:
1ـ بعزل ولاة عثمان على الأمصار قائلاً: ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإن منهم الذي قد شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ)(87).
فقد قرب عثمان ممن طردهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أو أقصاهم، لقد رد عمه الحكم ابن أمية إلى المدينة بعد أن طرده الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصبح يسمى طريد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وآوى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) قد أهدر دمه وولاه عثمان مصر كما ولى عبد الله بن عامر البصرة فأحدث فيها من الأحداث ما جعل المؤمنين ينقمون عليه وعلى عثمان(88).
2ـ إسناد ولايتها إلى رجال من أهل الدين والفقه والحزم، وذلك لأنه (عليه السلام) وجد أن أكبر عناصر الشكوى، وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة فبادر (عليه السلام) إلى تغيير التعيينات القديمة فأصدر أمره بتولية عثمان بن حنيف على البصرة وسهل بن حنيف على الشام وقيس بن سعد بن عبادة على مصر وأبي موسى الأشعري على الكوفة وهي الأمصار الكبرى آنذاك.
وقد كلمه الكثيرون ومنهم المغيرة بن شعبة بشأن ولاة عثمان فأشار عليه بأن يثبت هؤلاء الولاة على أعمالهم، ولكنه أبى عليه ذلك وعزلهم، وهكذا فعل مع طلحة والزبير بشأن ولاية الكوفة والبصرة وردهما رداً رفيقاً ممّا حملهما للضغط على الإمام علي (عليه السلام) والتشكيك بقيادته ونكث بيعتهما له والمجاهرة بمطالبته بدم عثمان، متناسيين أنهما كانا من بين المحضرين على الثورة على عثمان، بل وطالبوا بإعادة طرح أمر الخلافة شورى بين المسلمين وزعما أنهما بايعا عليّاً عن إكراه وأن بيعتهما لهذا لا تجوز(89).
وبينما الإمام علي (عليه السلام) يحث الخطى لصياغة نظم الدولة الإسلامية من الجذر، وأيضا تطبيق القوانين واللوائح الدستورية في كافة مرافق الدولة، أعلنت في غضون ذلك الطبقة البرجوازية، ـ كما كان متوقعاً ـ عن تمردها وعدم ارتياحها للتحولات الحاصلة في مجمل جوانب المجتمع منذ تسلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مقاليد الحكم، وخاصة ذلك التحول الذي خلط فيه أوراق الأغنياء وأصحاب الثروة.. فجاء طلحة والزبير يطلبان الإذن من الإمام علي (عليه السلام) للعمرة، فأعطى الإمام (عليه السلام) الإذن لهما، مع كونه على يقين تام بأن الهدف لم يكن العمرة وإنما هو قيادة حركة التمرد السياسي ضد الإمام علي (عليه السلام) وجاء الزبير وطلحة إلى مكة المكرمة وتحديداً إلى بيت عائشة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله) وراح الزبير وطلحة يحرّضان عائشة على الخروج لحرب الإمام علي (عليه السلام)، هذا مع أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد حذرها من أن تكون هي المرأة التي تنبح في وجهها كلاب الحوأب.. غير أن التحريض والتشجيع والدفع الذي لقيته من طلحة والزبير ومروان وغيرهم ساق بها للمضي في قيادة جيش التمرد والإعلان عن الحرب ضد حاكم الدولة الإسلامية أمير المؤمنين ووصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام علي (عليه السلام).
.. وفي يوم 20 جمادي الأول سنة 36هـ ـ أي بعد خمسة أشهر وواحد وعشرين يوماً من خلافة الإمام علي (عليه السلام) ـ وصلت كتيبة عسكرية تتقدمها ناقة تركبها عائشة وعلى جانبيها طلحة والزبير، فأقدمت الكتيبة على مشارف البصرة.
وصل الخبر إلى الإمام علي (عليه السلام) فجاء على راس جيش إلى حيث الموقع الذي حطّت به كتيبة عائشة، وبدأ الإمام (عليه السلام) يبث نصائحه وإرشاداته في أفراد جيش التمرد للتخلي عن قرار الحرب.. إلا أن القوم أبّوا إلا إشعال نارها، وحينما لم يصغ هؤلاء المتمردون للسان الحق، لم يكن أمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خيار آخر سوى مواجهة جيش التمرد، فبدأ الحملات العسكرية من الطرفين التي استمرت إلى يوم واحد وانتهت بهزيمة المتمردين، ثم قام الإمام علي (عليه السلام) بإرجاع عائشة إلى مكة المكرمة وأصحب معها أربعين فارساً ملثماً وكانوا من النساء... وعاد الإمام علي (عليه السلام) إلى الكوفة واستأنف مراحل المشروع الإصلاحي في الدولة الإسلامية إضافة إلى القيام بتسوية الخلافات العالقة خلال فترة غيابه إلى جانب الخلافات الموروثة من العهد السابق... غير أن حركة التمرد بقيادة طلحة والزبير ومروان بن الحكم وغيرهم لم تنطفئ نارها بعد، بل تأججت واستعرت ثم سرت إلى مناطق أخرى.
وقام قادة التمرد بتحريك جبهة الشام الواقعة تحت سيطرة معاوية.. وجبهة الشام هذه كما نعلم جميعاً لم تدن في يوم ما للنظام الإسلامي تماماً كما هو الحال عند معاوية الذي احتسب الشام مملكة اموية غير خاضعة للنظام الإسلامي ولذلك: ظل معاوية والياً على الشام والأردن طيلة خلافة عمر يتصرف حيثما يشاء، قد استأثر بالأموال فشرى بها الضمائر، وأحاط نفسه بالأتباع من دون أن تكون لأي أحد عليه رقابة، ولم توجه له أيّ مسؤولية، وإنما كان يرى التسديد والمديح والرضا بما يعمل، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله، وزاد في رقعة سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن بن علقمة الكناني كما ضم إليه حمص بعد أن استعفاه عاملها عمير بن سعد الأنصاري، وبذلك خلصت أرض الشام كلها، وأصبح من أعظم الولاة قوة ومن أكثرهم نفوذاً، وأصبح قطره من أهم الأقطار الإسلامية وأمنعها وأكثرها هدوءاً واستقراراً(90).
وصل كل من الزبير وطلحة ومروان إلى الشام، وعقدوا على الفور اجتماعاً مغلقاً وعاجلاً في قصر معاوية بحضور عمرو بن العاص وآخرين من المقربين للبيت الأموي.. كانت المباحثات تدور في هذا الاجتماع حول التخطيط لشن حرب جديدة ضد الإمام علي (عليه السلام)، فانتهى الاجتماع بمقررات تجمع على قرار شن الحرب على الدولة الإسلامية من الجبهة الغربية.
تحركت جيوش الشام نحو الشرق وتمركزت عند الحدود العراقية، فوصل خبرها إلى الإمام علي (عليه السلام) وأعلن التعبئة العسكرية العامة في صفوف الشعب، فلبى جمع هائل من المسلمين نداء الإمام (عليه السلام) وتوجه هذا الجمع إلى معسكرات الجيش استعداداً لخوض المعركة مع جيش الشام.
وصل جيش الإمام علي (عليه السلام) منطقة صفين في مقابل جيش الشام وكعادته (عليه السلام) شرع في إسداء النصيحة وإلقاء الحجة على القوم للحيلولة دون اشتعال نار الحرب ولحفظ الدماء، غير أنّ قادة التمرد بزعامة معاوية هذه المرة كانوا في شوق إلى الدماء وزج أفراد الجيش في محرقة الأحقاد في أتون حرب قذرة يكون الرابح فيها ـ حال الانتصار ـ تلك الطبقة المصلحية التي تطمح إلى استرجاع سابق عهدها في عيش البذخ والترف والإثارة.
وفي اليوم الخامس من شهر شوال سنة 36هـ ـ أي بعد أربعة أشهر ونصف من حرب الجمل ـ انقدحت شرارة حرب صفين والتي استمرت مائة وعشرة أيام، تكبد خلالها جيش الشام خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، وقدرت بعض الإحصاءات التاريخية أن تسعين ألفاً من جيش الشام لقوا حتفهم في هذه الحرب بينما استشهد عشرون ألفاً من جيش الإمام علي (عليه السلام).. وكان من أشد معارك هذه الحرب الطويلة، هي التي جرت في ليلة الهرير حيث لم يسمع فيها إلا اصطكاك السيوف وقراع الأسنة وقعقعة الخيل وتساقط الأيدي والأرجل ولا يرى فيها سوى الغبار المتصاعد إلى عنان الفضاء، حتى بلغ الحال بجيش الشام إلى حد التقهقر والانهيار وبانت عليه علامات الهزيمة والتراجع... هنا سارع عمرو بن العاص لإنقاذ الجيش من الهزيمة المنكرة التي ستقع عليها فطلب من معاوية أن ترفع المصاحف على الأسنة إيذاناً بإيقاف الحرب والرغبة في المفاوضات.. وكانت هذه خدعة استخدمها عمرو بن العاص ومعاوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تحل الهزيمة بدارهما فتتعرض سلطة بني العاص وبني أمية إلى الانهيار في منطقة الشام.
وللأسف فلقد انطلقت هذه المؤامرة الأموية على قطاع كبيرة من جيش الإمام علي (عليه السلام)، فهذا الأشعث بن قيس أحد الواجهات البارزة في جيش الإمام (عليه السلام) يأتي ويقول للإمام (عليه السلام): (إنا لك اليوم ما كنا عليه أمس ولسنا ندري ما يكون غداً وقد والله فلّ الحديد وكلت البصائر...) ثم جاء بعده آخرون وتكلموا بأكثر من ذلك، فرد الإمام علي (عليه السلام) على هذه التبريرات والأعذار قائلاً: (ويحكم إنهم ما رفعوها لأنكم تعلمونها ولا يعلمون، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاءاً ومكيدة) فقالوا له: (إنه ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله) فقال (عليه السلام): (ويحكم إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب فقد عصوا الله فيما أمرهم به، ونبذوا كتابه فامضوا على حقكم وقصدكم وخذوا في قتال عدوكم فإن معاوية، وابن العاص، وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن النايفة وعدداً غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالاً ورجالاً، فهم شر أطفال ورجال)(91) ولمّا رأى الإمام علي (عليه السلام) إصرار الجيش على قضية التحكيم والقبول بالمفاوضات ولما لم يجد (عليه السلام) حيلة لثني الجيش عن قناعته، سوى اضطرار القبول بالواقع المفروض خارج إرادته.. ثم أقدم الطرفان على تنفيذ خطوات عملية في موضوع المفاوضات (التحكيم) فكان الاتفاق مبدئياً على أن يخرج رجل من جيش الإمام علي (عليه السلام) وآخر من جيش الشام لبدء المفاوضات وإنهاء النزاع سلمياً.
وقد اختار معاوية ممثلاً عنه وهو عمرو بن العاص، أما بالنسبة لجيش الإمام علي (عليه السلام) فقد قام الأشعث وطلب من الإمام تعيين أبي موسى الأشعري، فرفض الإمام (عليه السلام) وقال: (قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن إني لا أرى أن أولّي أبا موسى الأشعري، فقال الأشعث ومن معه لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري، قال: (ويحكم هو ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس مني.. ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنته لكن هذا عبد الله بن عباس أولّيه ذلك فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فينا مضريان، قال علي (عليه السلام): فالأشتر، قالوا: وهل هاج هذا الأمر إلا الأشتر. فقال الإمام (عليه السلام): فاصنعوا الآن ما أردتم وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة وقيل لأبي موسى: إن الناس قد اصطلحوا، فقال: الحمد لله، قيل: وقد جعلوك حكماً، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون(92).
وليس ثمة شك في أن انعكاسات الموقف الخاسر الذي اتخذه القطاع الأكبر في جيش الإمام علي (عليه السلام) إزاء إيقاف الحرب من جهة ثم مسألة التحكيم من جهة ثانية، خلفت آثاراً خطيرة للغاية على الأوضاع السياسية والاجتماعية، حيث أن هذا الموقف أحدث انعطافة خطيرة في مسيرة الدولة الإسلامية، كما أربكت موازين القوى إذ بدأ العد التنازلي في مؤشر السلطة السياسية للإمام (عليه السلام) لا سيما وأن مصدر هذه المخاطر والأزمات من قضية مركزية ومحورية في موضوع النظام والمجتمع، وهي مسألة طاعة القيادة والتي ألغيت من راس خلال لحظات معدودة وفي أمر من أشد الأمور حساسية وخطورة وهو الحرب.
ولكن الذي جرى هو صدور قرارات بعيدة كل البعد عن قناعة أو شرعية القيادة الإسلامية، وإنما خروج على حكم الإمام (عليه السلام) المفترض الطاعة، ولعل من سخريات القدر أن عمرو بن العاص يتدخل في مصير المسلمين حينما سفّه أحلام أبي موسى الأشعري بعد أن طلب منه خلع صاحبه أي الإمام علي (عليه السلام) فيقوم ابن العاص ليعلن تثبيت صاحبه معاوية على الحكم..
ومهما يكن فإن الهدنة بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش الشام قد حصلت على أساس إجراء مفاوضات مباشرة وثنائية بصورة مستمرة لإنهاء موضوع التحكيم، وإن كان قد حصل نزاع على أصول التحكيم.. ورجع الإمام علي (عليه السلام) من صفين إلى الكوفة وقد اعتصره الألم وعلته سحابة من الكآبة والحزن بسبب ما أبداه أصحابه من عصيان وتراخي نفسي قبال حرب معسكر الشام... والغريب في الأمر أن هؤلاء الذين كانوا قد أكرهوا الإمام علي (عليه السلام) للقبول بقضية التحكيم، هم اليوم يرفعوا لواء المعارضة ضد الإمام علي (عليه السلام) لقبوله التحكيم، فخرج اثنا عشر ألفاً منهم إلى حروراء (قرية من قرى الكوفة) للإعلان عن حركة معارضة جديدة.
وبعد عودة الإمام علي (عليه السلام) إلى الكوفة اجتمع هؤلاء في المسجد وكان (عليه السلام) على المنبر فنادوه: جزعت من البلية ورضيت بالقضية وقبلت الدنية لا حكم إلا لله. فرد عليهم:حكم أنتظر فيكم وقال (عليه السلام) حينما سمع قول هؤلاء الخوارج (لا حكم إلا لله) كلمة حق يراد بها باطل! نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير برّاً وفاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، فيبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع به الغي ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوى حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر(93).
وبهذه الكلمة يكون الإمام (عليه السلام) قد كشف عن الخواء الفكري والمرتكزات العقائدية الباطلة التي كانت عند الخوارج، وأظهر حقيقة الأهداف التي يسعى الخوارج إلى تحقيقها ـ كما ذكرنا سابقاً.
ولكن الواقع انه بعد حرب صفين أصبحت الأوضاع السياسية في تدهور مستمر فلم تهدأ جبهة الشام حتى أشعل الخوارج حرباً جديدة فجاءت حرب النهروان سنة 38 هجرية فخرج الإمام (عليه السلام) لصدّ الخوارج وقتالهم، ثم بعد أن اشتد أوار الحرب واقترب جيش الإمام (عليه السلام) من مرحلة النصر قام الإمام (عليه السلام) خطيباً في جيشه يستحثه على مواصلة الحملات العسكرية قائلاً: (إن الله قد أحسن إليكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. فقالوا: يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا ونفذت نبالنا ونصلت أسنة رماحنا فدعنا نستعد بأحسن عدتنا.
ولم تكن هذه الأعذار والمبررات تعبر سوى عن حالة التململ والتداعي والانهيار في أوساط جيش الإمام (عليه السلام) من الحرب، ممّا جعل الجنود ينسلون من الجبهات والعودة إلى المدن، حتى لم يصمد مع الإمام (عليه السلام) إلا الطليعة الرسالية القليلة العدد، والتي هي غير قادرة على تعبئة الفراغ الهائل في الساحة والذي نجم عن نكوص الجيش وتمرده على قرارات قيادته والتي لم تورث هذه الحالة سوى هزائم متتابعة ومتواصلة.
فلم يكن زمن النزاع العسكري بن النظام الإسلامي وجيش الشام محدوداً بإيقاف حرب صفين وإعلان التحكيم، بل أن حملات عسكرية شكلت امتداداً لحرب صفين قادها جيش الشام على المناطق الواقعة تحت سلطة الدولة الإسلامية. فهذا بسر بن ارطأة يبعث به معاوية إلى الحجاز واليمن ليقوم بمجزرة رهيبة في أوساط المسلمين والمسؤولين في الدولة الإسلامية من أتباع الإمام (عليه السلام) فحينما دخل بسر اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس عامل الإمام علي (عليه السلام)، ارتكب بسر أبشع الجرائم من قتل ونهب وسلب حتى هرب منها عبيد الله بن العباس، ثم جاء بسر إلى المدينة فأثار الرعب في أهلها وحتى الصالحين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يسلموا من بطش بسر، بينما هرب قسم منهم مثل جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب الأنصاري كما هرب جمع كبير من النساء والشيوخ والأطفال الذين لم يجدوا ملجأً من جرائم الطاغية بسر إلا الهروب، وفيما لقي بسر ابني عبد الله بن العباس ذبحهما أمام أعين الناس، وكان يدخل بيوت المدينة وينتزع الطفل من أمه ويرمي به إلى الحائط فيصطبغ بالدم ويلتصق به أجزاء من مخ هذا الطفل البريء كما هدم دوراً كثيرة في المدينة بعد أن استباحها أياماً.
وهو بسر الذي هجم على حمدان وسبى نساءها كُنَّ أول مسلمات يسبين في الإسلام والمجزرة الرهيبة في أحياء بني سعد.
وعندما وصل خبر بسر إلى الإمام علي (عليه السلام) اغتاظ كثيراً وقام في الناس خاطباً وقال: (أنبئت بسراً، قد اطّلع من اليمن وإني والله لأظن أنّ هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته..) وقال (عليه السلام) أيضاً بعد هذه الحادثة: (اللّهم إني قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبد لهم بي شراً مني، اللّهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء، أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم: هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم.
وهناك حادث آخر في مصر حيث كان محمد بن أبي بكر والياً عليها من قبل الإمام علي (عليه السلام) فأرسل معاوية جيشاً من أهل الشام بقيادة عمرو بن العاص لحرب محمد بن أبي بكر فتقابل الجيشان واندلعت نار الحرب بينهما، غير أن جيش مصر خذل والي الإمام علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر، فدخل عمرو بن العاص مصر وارتكب جريمة بشعة حيث أدخل محمد بن أبي بكر في جوف حمار ثم أحرقه وهو في داخله، فوصل خبره إلى الإمام علي (عليه السلام) فبكى لشهادته وترحم عليه، ثم بعث بعده مالك الأشتر فوصل الخبر إلى معاوية فدسّ إليه السّم فاستشهد مالك وقال معاوية آنذاك: (إن لله جنوداً من عسل).
شعر الإمام (عليه السلام) آنذاك بخطورة الموقف خاصة وأن الطليعة الرسالية التي كان يعتمد عليها في كثير من المسؤوليات تتعرض اليوم إلى عملية تصفية بشعة.. فلقد قتل بالأمس عمار بن ياسر وهاشم المرقال في صفين، ومات حذيفة بن اليمان بالمرض كما قتل ابناءه في صفين وغيرهم، واليوم يستشهد محمد بن أبي بكر ومالك الأشتر، ولذلك وجد الإمام علي (عليه السلام) نفسه وحيداً في ساحة المواجهة مع العدو... ومن هنا بدأت تحاك خيوط المؤامرة من قبل المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، خاصة وقد تقطعت أوصال الدولة الإسلامية أثر الحروب الداخلية والخارجية.
وكان للتداعي الهائل من أفراد الأمة للضغوطات التي تسببت من جراء سلسلة الحروب المفروضة عليها أثراً بارزاً وجرحاً عميقاً أنهك كاهل الدولة وأوقع هزيمة نفسية في أوساط المجتمع الإسلامي، فتعرضت الطليعة الرسالية لمؤامرة التصفية والاغتيالات الجسدية، بحيث كشفت الحزام الأمني الذي كان يشكله الطليعة حاجزاً بين العدو ومركز القيادة، فلمّا تساقط أفراد الطليعة شهداء في معركة الكرامة أو في المهام الرسالية انفرط عقد الحزام ولم يبق أمام العدو سوى شخص القيادة الإسلامية المتمثلة في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقرر العدو تنفيذ مخطط اغتيال القيادة.
وكانت هذه من أخطر انعكاسات الهزيمة النفسية في الأمة، والتي يكون فيها المجال سانحاً لمثل هذه المخططات الحساسة والتي لا تتم سوى في حالة وصول الصراع إلى ذروته القصوى أو في حال تساوي موازين القوى بين النظام الحاكم والمعارضة، أو في حالة الفوضى وعدم استقرار الأوضاع الداخلية أو غيرها من الأسباب سواء بصورة منفصلة أو مجتمعة.
وفي التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين هجرية وقعت الجريمة العظمى عبد الرحمن بن ملجم ونفذ عملية الاغتيال، حينما كان الإمام علي (عليه السلام) في محراب المسجد أثناء انشغاله بالصلاة فجرد عدو الله ورسوله سيف البغي، ثم هوى به على هامة الإمام (عليه السلام) فسقط (عليه السلام) مضرجاً بدمه ونادى (فزت ورب الكعبة، قتلني ابن اليهودية)(94).
وبقي الإمام علي (عليه السلام) ثلاث ليال يكابد ألم الضربة الحاقدة التي أصابت رأس العدل وهوّت ركن الحق وأسقطت علم التقى وقلعة الإيمان وغيبت روح الإسلام ولسان الصدق وسلوك الرسالة...
وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين هجرية ارتجت الكوفة بأهلها فلقد استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فنادى جبرائيل في السماء (تهدمت والله أركان الهدى قتل عليٌ المرتضى، قتله أشقى الأشقياء..) فبكى عليه الملأ الأعلى كما بكى عليه أهل الأرض.
تلك كانت إطلالة عاجلة على التاريخ الإسلامي في سبيل إعداد رؤية تمهيدية للفترة القادمة التي نبدأ فيها الحديث. بتركيز كبير ـ عن عهد الإمام الحسن (عليه السلام).
ولأن بعض الاستنتاجات التي نرى بأنها موضوعية فيما يرتبط بثمة قضايا وقعت خلال عهد الإمام المجتبى (عليه السلام) فوجدنا أن مخاطبة التاريخ وربط وقائعه وأحداثه الماضية والحاضرة والمستقبلية تجعلنا أكثر قدرة على معايشة الواقع التاريخي بروح موضوعية ومتجردة، وربما تفيدنا هذه الطريقة في التوصل إلى نتائج جديدة لم نوفق نحن للوصول إليها والاستفادة منها في فصول البحث.

خاتمة حكومة الإمام (عليه السلام):
تركت حكومة الإمام آثاراً بالغة الأهمية والخطورة في المجتمع الإسلامي ولعل من أهمها ما يلي:
1ـ إنها أبرزت الواقع الإسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم، فقد كان الإمام يهدف في حكمه إلى إزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس، وتحقيق الفرص المتكافئة بينهم على اختلاف قومياتهم وأديانهم، ومعاملة جميع الطوائف بروح المساواة والعدالة فيما بينهم من دون أن تتمتع أي طائفة بامتياز خاص وقد أوجدت هذه السياسة للإمام رصيداً شعبياً هائلاً، فقد ظل عليّ قائماً في قلوب الجماهير الشعبية بما تركه من صنوف العدل والمساواة وقد هام بحبه الأحرار، ونظروا إليه كأعظم مصلح اجتماعي في الأرض، وقدموه على جميع أعلام تلك العصور، يقول أيمن ابن خريم الأسدي مخاطباً بني هاشم وعلى رأسهم الإمام:
أأجعلـــــكم وأقــــــــواما سواء وبينـــــكم وبينـــــــــهم الهـواء
وهم أرض لأرجلــــــكم وأنـــتم لرؤوســهم وأعينهم سماء(95)
2ـ إن مبادئ الإمام وآراءه النيرة ظلت تطارد الأمويين وتلاحقهم في قصورهم فكانوا ينظرون إليها شبحاً مخفياً يهدد سلطانهم، ممّا جعلهم يفرضون سبه على المنابر للحط من شأنه، وصرف الناس عن قيمه ومبادئه.
3ـ إن حكومة الإمام التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية الكبرى قد جرت لأبنائه كثيراً من المشاكل والمصاعب، وألحقت بهم التنكيل والقتل من حكام عصرهم، وقد تنبأ النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بذلك فقد روى أبو جعفر الإسكافي أن النبي (صلّى الله عليه وآله) دخل على فاطمة فوجد علياً نائماً فذهبت لتوقظه، فقال (صلّى الله عليه وآله): (دعيه فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله). فبكت فاطمة فقال لها: لا تبكي فإنّه معي وفي موقف الكرامة عندي(96).
لقد أمعن الحكم الأموي والعباسي في ظلم أبناء الإمام لأنهم تبنوا حقوق المظلومين والمضطهدين تبنوا المبادئ العليا التي رفع شعارها الإمام أمير المؤمنين فناضلوا كأشد ما يكون النضال في سبيل تحقيقها على مسرح الحياة، وكان من أشد أبناء الإمام حماساً واندفاعاً في حماية مبادئ أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) فقد انطلق إلى ساحات الجهاد عازماً على الموت آيساً من الحياة ليحمي مبادئ جدّه وأبيه ويرفع راية الإسلام عالية خفاقة وينكس أعلام الشرك والإلحاد، ويحطم قيود العبودية والذل.
4ـ وأوجد الإمام في أثناء حكمه القصير وعياً أصيلاً في مقارعة الظلم، ومناهضة الجور فقد هب في وجه الحكم الأموي أعلام أصحابه كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن عفيف الأزدي وأمثالهم من الذين تربوا بهدي الإمام، فدوخوا أولئك الظالمين بثورات متلاحقة أطاحت بزهوهم وجبروتهم، لقد كان حكم الإمام ـ حقاً ـ مدرسة للنضال والثورة، ومدرسة لبث الوعي الديني والإدراك الاجتماعي، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مخلفات حكومة الإمام (عليه السلام).

1 - أخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من أحاديث كنز العمال، ص44، ج1، وعلى نسق هذا الحديث أحاديث كثيرة أخرى روتها الصحاح والمسانيد.
2 - بولس سلامة.
3 - قال معاوية فيما كتبه إليه مع أبي إمامة الباهلي: (وتلكأت في بيعته، (يعني أبي بكر)، حتى حملت إليه قهراً تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش!
4 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج1، ص299.
5 - سيرة الرسول لابن هشام، ج2، 118.
6 - انظر النزاع والتخاصم فيما بين أمية وبني هاشم للمقريزي تحقيق نوس، ص48.
7 - الإمامة والسياسة 1، 4.
8 - علي وبنوه، ص19.
9 - الملك والنحل للشهرستاني.
10 - دراسات في عقائد الشيعة الإمامية محمد علي الحسني، ص110.
11 - شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد، ج1، ص135.
12 - مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير ج5، ص135.
13 - فتوح البلدان للبلاذري، ص103.
14 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
15 - الإصابة، ج2، ص444.
16 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص289.
17 - الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص119.
18 - تاريخ الطبري، ج2، ص202.
19 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص133.
20 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج1، ص55.
21 - شرح النهج ابن أبي الحديد، ج6، ص343، دار إحياء الكتب العربية.
22 - الإمامة والسياسة، ج1، ص19.
23 - الآداب الشرعية والمنح المرعية، ج1، ص49.
24 - تاريخ الطبري، ج4، ص52.
25 - الإمامة والسياسة، ج1، ص19، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري.
26 - الإمامة والسياسة، ج1، ص20.
27 - مروج الذهب، ج2، ص195.
28 - تاريخ ابن الأثير، ج2، ص290.
29 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج8، ص111.
30 - الخراج، ص242.
31 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 8، ص111.
32 - العصبية القبلية، ص190.
33 - الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية، ص251.
34 - اتجاهات الشعر العربي، ص108.
35 - الإمام الحسين (عليه السلام) باقر القرشي، ص232.
36 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص74.
37 - البرة: حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود فيربق بها جبل يقاد به.
38 - شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 6، ص342.
39 - حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، باقر القرشي، ج1، ص175.
40 - النهج لابن أبي الحديد، ج 1، ص162.
41 - نهج البلاغة، ج9، ص29، 30.
42 - نهج البلاغة، ج9، ص28، طبع دار إحياء الكتب العربية.
43 - نهج البلاغة، ج9، ص54.
44 - الغدير الأميني، ج6، ص83، ص333.
45 - منشم ـ بكسر الشين ـ اسم امرأة بمكة كانت عطارة، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم، فكان يقال؛ (أشأم من عطر منشم) جاء ذلك في صحاح الجوهري، 5/2041، وقد استجاب الله دعاء الإمام فكانت بين عثمان وعبد الرحمن أشد المنافرة والخصومة، وقد أوصى ابن عوف أن لا يصلي عليه عثمان بعد موته.
46 - الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) باقر شريف القرشي، ج1، ص330.
47 - انظر ـ التعليقة ـ رقم2، حول مذكرة المصريين لعثمان، في قسم التعليقات.
48 - النهابير: المهالك.
49 - تاريخ الطبري، ج5، ص110، الأنساب ج5، ص74.
50 - انظر ـ التعليقة ـ رقم 3، حول معاوية بن أبي سفيان، في قسم ـ التلعيقات ـ.
51 - الكامل لابن الأثير، ج5، ص67، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص152.
52 - الفتوح، ج2، ص218.
53 - الخطابة في صدر الإسلام، ج2، ص23.
54 - تمام المتون، ص79.
55 - حياة الإمام الحسن (عليه السلام) باقر شريف القرشي، ج1، ص281.
56 - حش كوكب: اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.
57 - العقيدة والشريعة في الإسلام، ص45.
58 - وقد حدد الإمام علي (عليه السلام) هذه الحقوق في مناسبة قاسية من مناسبات حياته وذلك بعد صفين في خطبة له راجع نهج البلاغة، ج1، ص102، 105.
59 - راجع للتوسع ثورة الحسين، لمحمد مهدي شمس الدين، ص35، 38.
60 - نهج البلاغة، ج1، ص217.
61 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص36، خطبة 92، الكامل لابن الأثير: 37، 191.
62 - انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
63 - راجع مروج الذهب، ج3، ص90.
64 - قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (... والله لقد دافعت عنه (يعني عثمان) حتى أني خشيت أن أكون آثماً). المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص84، الخطبة 240.
65 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان: (... وإني أنشدك الله ألا تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال: يُقتل في هذه الأمة إمام، يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبث الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكون لمروان سيقه، يسوقك حيث شاء...) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص57.
66 - (... إن عثمان قتل ومعه في الدار ثمانية عشر رجلاً من بني أمية، منهم مروان بن الحكم) مروج الذهب: ج3، ص91.
67 - راجع الكامل لابن الأثير: ج2، ص160.
68 - انظر ـ تعليقة ـ رقم 5، حول قول الإمام علي (عليه السلام) لجماعته بعد رفع المصاحف، في قسم التعليقات.
69 - سورة الإسراء،الآية:33.
70 - راجع جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت: ج1، ص327، تاريخ ابن الأثير: ج3، ص277.
71 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص19.
72 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص46.
73 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص75.
74 - انظر ـ التعليقة ـ رقم 4، حول الخوارج، في قسم التعليقات.
75 - نفس المصدر.
76 - سورة الزمر: 65.
77 - سورة الأعراف: 204.
78 - سورة الروم: 60. راجع الطبري: ج5، ص73.
79 - من حياة الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، الأستاذ مرتضى المطهري، ص32.
80 - تاريخ الطبري، ج5، ص73.
81 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: ص 36.
82 - راجع كتاب الأئمة الاثنا عشر دراسة وتحليل، عادل الأديب، ص69.
83 - نهج البلاغة، ج1، ص217.
84 - نهج البلاغة، ج1، ص59، وشرح النهج جزء 1 ص269، 270.
85 - شرح نهج البلاغة، ج7، ص37، 39، 40.
86 - نفس المصدر.
87 - نهج البلاغة، ج7.
88 - النظم الإسلامية نشأتها وتطورها. رسول الله (صلّى الله عليه وآله). صبحي الصالح، ص91.
89 - اليمين واليسار في الإسلام، احمد عباس صالح 118, 119.
90 - حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، للقرشي: ج1، ص269.
91 - مروج الذهب: ج2.
92 - مروج الذهب: ج2، ص404.
93 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص82.
94 - انظر ـ التعليقة رقم 6 ـ حول استشهاد الإمام علي (عليه السلام) في قسم التعليقات.
95 - الأغاني، ج1، ص21.
96 - شرح النهج ج4، ص107.

عبير الزهــــــــراء 14-05-2012 07:51 PM

رد: الامام الحسن ..القائد و الأسوة
 
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

السلام على كريم اهل البيت

بارك الله فيك اخيتي اوراق الخريف

لاحرمنا الله قادمك

نور الولاية علي 16-05-2012 02:47 PM

رد: الامام الحسن ..القائد و الأسوة
 
http://nawasreh.com/samieo/images-au...65kbrr9t1j.gif
http://img186.imageshack.us/img186/2...mohamedps7.gif
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام على الزهراء البتول الطاهره وعلى ابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
السلام عليك يامعز المسلمين
شكرا لك اخت اوراق الخريف
ودمت على نهج ال البيت ع




الساعة الآن 09:32 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir